يشهد لبنان منذ السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2019 حراكا احتجاجيا ضد الطبقة السياسية والفساد. ويطالب باستعادة الأموال المنهوبة ومحاكمة المتورطين في سرقة المال العام وقضايا الفساد. وصعدت المجموعات المشاركة في الحراك سقف مطالبها إلى المطالبة بإسقاط النظام الطائفي تحت شعار “كلن يعني كلن” بكل مضامين الطائفية السياسية والمحاصصة.
نجح الحراك في الضغط على السلطة من خلال الحشد والتعبئة واستمرار المظاهرات والاعتصامات في أكثر من منطقة مما أدى إلى استقالة حكومة سعد الحريري.
لكن سرعان ما حاولت قوى السلطة عبر سبل عدة ركوب موجة الحراك تارة أو شيطنته تارة أخرى. هذا عدا عن الاعتداءات التي تعرض لها المتظاهرون في غير مناسبة.
فشلت قوى الحراك في وضع برنامج سياسي لتشكيل حكومة مؤقتة تجري انتخابات نيابية مبكرة وبالتالي فرض مرشحين يعبرون عنها لرئاسة الحكومة، مما دفع بقوى السلطة للالتفاف على الحراك من خلال تكليف حسان دياب بتشكيل حكومة جديدة خلافا لتطلعات الحراك.
يعيدنا هذا المشهد إلى تجارب لبنانية سابقة حديثة العهد في 2005 التي تمثلت بـ”ثورة الأرز” وكذلك في 2011 في ما يعرف باسم “حراك إسقاط النظام الطائفي” حيث دقت مسامير في نعش النظام السياسي إلا أنها لم تكن كافية لسقوطه.
نستعرض فيما يلي ورقة بحثية أعددتها عام 2016 تحت إشراف مدير برنامج العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا الدكتور خليل العناني تقارن بين سياق نشأة وظروف الحركات الاجتماعية الراهنة في لبنان ونتائجها وأسباب استمرار النظام الطائفي.

توطئة:
شكل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005 نقطة تحول مفصلية في تاريخ الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في لبنان. إذ أنه وخلال شهر من اغتياله، تبلور حراك سياسي احتجاجي باسم ثورة الأرز أو انتفاضة الاستقلال تحت قيادة عرفت لاحقا باسم تحالف 14 آذار/ مارس 2005 السياسي الحزبي، أدى في النهاية إلى استقالة حكومة عمر كرامي وانسحاب الجيش السوري من لبنان وتحقيق أهداف ومطالب أخرى.
ومن جهة ثانية، حرّكت ثورات الربيع العربي المياه الراكدة في الحركة الاجتماعية والاحتجاجية في لبنان، حيث انطلق في 27 فبراير/ شباط 2011 حراك احتجاجي دون قيادة تقليدية يطالب بإسقاط النظام الطائفي. استمر الحراك لأشهر ثم بدأ بعدها بالتلاشي وبقي النظام الطائفي جاثما على صدور معارضيه.
نتناول في هذه الورقة أهمية ودور الحركات الاجتماعية في النظم السياسية والتحول الديمقراطي من خلال المقارنة بين “ثورة الأرز” وحملة إسقاط النظام الطائفي، في محاولة للإجابة على الأسئلة التالية: ما هي سياقات وظروف تشكل الحركتين؟ ما هي الاختلافات والتباينات النظرية والعملية بين الحركتين؟ كيف انعكس ذلك على تحقيق “ثورة الأرز” معظم أهدافها بينما أخفقت حملة إسقاط النظام في تحقيق مطالبها؟
الإطار المفاهيمي:
أ- مفهوم الحركات الاجتماعية:
تعتبر الحركات الاجتماعية عنصرا هاما في العملية السياسية ويقصد بها غالبا مجموعة من الأشخاص تخوض نزاع ضد خصوم محددين بشكل واضح. وتتشارك المجموعة في هوية مشتركة ومعتقدات موحدة أو برنامج مشترك والعمل الجماعي. ويتضمن مفهوم الحركات الاجتماعية ثلاثة عناصر على الأقل: مجموعة من الناس لها توجه نزاعي تجاه خصم معين، وهوية جماعية ومجموعة من المعتقدات والأهداف المشتركة، ومجموعة من النشاطات الجماعية[1].
وتصنف الحركات الاجتماعية على أنها أحد مكونات النشاط الشعبي الذي لا يستهان به حيث يخاطر المشاركون فيه، من مختلف طبقات المجتمع، في نشر الدعاية ضد الأنظمة التسلطية، وتنظيم جماعات غير قانونية، وفي بعض الحالات بمهاجمة رأس السلطة بشكل مباشر. وإذ تهدف الحركات الاجتماعية إلى التحول الديمقراطي فإن ظهورها غالبا يعود إلى الصعوبات التي أوجدها الحكم التسلطي. وتظهر الحركات الاجتماعية من خلال أنشطة من الاحتجاج والصراع التي تهدف إلى التأثير في الهيئات الحكومية وفي السياسيين وإلى الضغط على هذه الأطراف[2].
وتجمع معظم التفسيرات لمفهوم الحركة الاجتماعية على وجود عناصر أساسية لا بد من توفرها مثل الجهود المنظمة، مجموعة من المشاركين، أهداف مشتركة، سياسات وأوضاع راهنة، مطالب بالتغيير، مكونات فكرية، وسائل تعبئة. وتبني عمليات الحركة الاجتماعية وتنتج شبكات معلوماتية مكثفة وسط الفاعلين الذين يتقاسمون في هوية جماعية وينخرطون في صراع اجتماعي وسياسي[3].
وتعمل الحركة الاجتماعية من خلال إتاحة المجال للتنوع الواسع وضبط التركيبة الداخلية وذلك من خلال خلق مناخ يتيح المجال لتركيب ثلاثة عناصر وظيفية: 1- الحملة وهي مجهود عام مستدام ومنظم يملي مطالب جماعية على سلطات مستهدفة. 2- ذخيرة الحركة الاجتماعية وهي توظيف لتوليفات ممكنة من بين أشكال العمل السياسي مثل الاعتصامات والتظاهرات وتوزيع المناشير. 3- مؤهلات التحرك وهي تمثيل المشاركين لجملة من الصفات العامة الموحدة بينها الجدارة، والوحدة، والزخم العددي، والالتزام تجاه قاعدتهم الشعبية[4].
وتختلف الحركات الاجتماعية عن الأحزاب إذ أن الاخيرة يمكن أن تكون جزءا من الشبكة التي تشكل الحركة الاجتماعية لكن الحركة لا يمكن أن تتقلص أو تتحول إلى مجموعة أو حزب. وإذ تستمر بعض الحركات لأوقات قصيرة تمتد أخرى إلى عقود حيث تتميز بأفعال جماعية غير مؤسساتية لأنها ليس لديها منفذ إلى أماكن اتخاذ القرار في البرلمان أو الحكومة. وبالتالي فإنها تعتمد على استراتيجيات تلفت النظر بالقوة لقضاياها من خلال تحريك المجال العام[5]. وهذا يحدث من خلال لفت نظر عامة الناس إليها من خلال وسائل الإعلام بدلا من صناع القرار، وذلك عبر نوعين من الاستراتيجية لجذب الانتباه لقضيتها: أولها تنظيم المظاهرات في المجال العام، وثانيها، جمع معلومات ذات مصداقية ونشرها بشكل استراتيجي وبانتباه في مواقع معينة[6].
وبينما يرى باحثون أن الحركة الاجتماعية هي عمل جماعي لتحقيق التغيير المطلوب، يضيف آخرون بأنها أيضا لمقاومة تغيير غير مرغوب فيه. وتظهر الحركات الاجتماعية عندما تفشل الأساليب التقليدية والمؤسسية العادية في أداء ما يرضي بعض الفئات في المجتمع، خصوصا عندما يطول انتظار التغيير الاجتماعي المرغوب فيه، أو عندما يحدث تغيير بوتيرة متسارعة وفوضوية تُشعر الآخرين بالتهديد مما يستدعي التجمع لمقاومة هذا التغيير أو إبطائه أو تنظيمه. ومن جهة أخرى، يغرق الواقع العربي بالكثير من الشواهد التي تستدعي ولادة حركات اجتماعية مثل عدم المساواة والفساد وسوء الإدارة والمخالفات والانحرافات والتخلف وعدم المساواة[7].
ويجري الربط بين الدمقرطة والحركات الاجتماعية من منطلق أن الديمقراطية تحتاج إلى مستويات منخفضة من التعبئة والنقابات إذ أن عوامل الحشد والتعبئة لها دور في ظهور الديمقراطية والحفاظ عليها وتمددها. وهنا، يمكن الإشارة إلى دور الحشود في الموجتين الأولى والثانية للدمقرطة عند هنتغتون، حيث اتفق باحثون على إيلاء الظروف الاقتصادية والاجتماعية أهمية تشدد على الدور الذي تلعبه الطبقات الاجتماعية في هذا الإطار[8].
ولا بد من تمييز الحركات الاجتماعية عن الثورات إذ أن الثورة وفق صموئيل هنتغتون، تغير سريع وأساسي وعنيف في القيم السائدة لمجتمع ما، وفي مؤسساته السياسية وبنيته الاجتماعية وقيادته والسياسات والنشاط الحكومي. وتختلف الثورة عن التغيرات العنيفة في القيادة التي تبقي الهيكليات السياسية والاجتماعية على حالها. وكذلك، تختلف عن حروب الاستقلال عن الاستعمار حيث تبقى هيكلياته السياسية والاجتماعية لكن يتغير موقع السيادة[9].
ونستند في المقاربة النظرية لمفهوم الحركات الاجتماعية إلى منظور “العملية السياسية”[10]، الذي يعتمد على نظرية تعبئة الموارد. وترى نظرية تعبئة الموارد أن الحركات الاجتماعية لا تتطور من تصاعد الغضب وإنما من التزايد الملحوظ في مستوى الموارد المتوفرة التي تدعم النشاطات الاحتجاجية الجماعية للجماعات المضطهدة. وتعد الوحدة، والتنظيم، والدعم الخارجي موارد رئيسية للحركات الاجتماعية. ويضيف منظور “العملية السياسية” على نظرية تعبئة الموارد عنصرين، وضع المجموعة المضطهدة في سياق سياسي والتركيز على الفرص السياسية، وتحديد البنية التي من خلالها يجري التفاعل مع الخصوم. أما العنصر الثاني فهو الاعتراف أن ظاهرة الحركات الاجتماعية تشير إلى تحول في الوعي داخل الجماعات المضطهدة[11].
ب- لبنان والحركات الاجتماعية:
يعتبر لبنان، وفق مقدمة الدستور، جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والتعبير والمعتقد[12]. وتصنف الديمقراطية اللبنانية على أنها توافقية تخضع لمعايير الطائفية السياسية خصوصا في توزيع المناصب ابتداء من الرئاسات الثلاثة، الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، وصولا إلى أعضاء البرلمان والحكومة ووظائف الدولة[13].
وقد ظلت الديمقراطية أملا يصعب تحقيقه في لبنان إذ تراجع دور المجتمع الأهلي (أحزاب وجمعيات ونقابات) الذي اتجه منذ الاستقلال إلى تأسيس مجتمع مدني مؤثر في صنع القرار، بفعل الحرب الداخلية. وبرزت قوى اجتماعية مليشيوية في سياساتها، وريعية في نشاطاتها الاقتصادية، لتسيطر على شطر واسع من عملية صنع القرار[14].
ويصنف مؤشر “الحرية في العالم 2016” لبنان ضمن الدول الحرة جزئيا حيث حقق 43 نقطة من أصل 100 التي تعبر عن الأكثر حرية. وقد شهد مؤخرا بين أغسطس/ آب وأكتوبر/ تشرين الأول 2015 سلسلة مظاهرات واحتجاجات فجرتها أزمة النفايات والفساد ضمن حراك “طلعت ريحتكم” و”بدنا نحاسب”[15].
وتاريخيا، يعتبر لبنان غني بالحركات الاحتجاجية في تاريخه الحديث، إلا أنه يتميز عن غيره بعاملين أساسيين هما: بنيته الطائفية، وارتباطه بالمحيطين الخارجيين، الإقليمي والدولي، اللذين قاداه وهو من بلدان العالم الثالث إلى التمتع ببيئة حرة ونظام شبه ديمقراطي. لكن الاحتجاجات في لبنان نادرا ما خرجت عما يسمى الارتباط الطائفي والانشداد إلى خارج، بما فيها الاحتجاجات ذات الطابع المطلبي الذي وظف في الصراع السياسي ذي الطابع الطائفي من المستفيدين فيه والمتضررين على السواء[16].
وتتعدد دوافع الاحتجاج في لبنان ابتداء من التجاذبات والانقسامات السياسية خصوصا الحركات العمالية، بالإضافة إلى الحراك الاحتجاجي ضد الوجود العسكري والأمني السوري في لبنان من قبل القوى المسيحية. إذ أن احتجاجات 7 آب/ أغسطس 2001 المناهضة للوجود السوري في لبنان وما تبعها من قمع أمني عنيف تعتبر من أبرز مشاهد الاحتجاج في تلك الفترة[17].
وصولا إلى الفساد الذي يستشري بالبلاد. إذ، وفقا لمؤشر الفساد العالمي 2016، فإن لبنان يحتل المرتبة 136 من أصل 176 على مستوى العالم حيث حقق 28 نقطة من أصل 100 التي تعتبر الأكثر نزاهة[18].
ج- “ثورة الأرز” أو انتفاضة الاستقلال 2005:
فجّر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005 المشهد السياسي في لبنان. إذ أنه وبعد أشهر من اشتداد الخصومة بين المعارضة المتمثلة بـ”لقاء البريستول”[19] وبين السلطة التنفيذية برأسيها، رئيس الجمهورية إميل لحود ورئيس الحكومة عمر كرامي وخلفهما حزب الله ومؤيدو النظام السوري، دخلت البلاد في دوامة من التفجيرات والاغتيالات ابتداء من محاولة اغتيال النائب مروان حمادة في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2004.
و”لقاء البريستول” هو ائتلاف سياسي معارض تشكل في 14 كانون الأول/ ديسمبر العام 2004، وهو مناهض للوصاية السورية على لبنان ولتمديد ولاية رئيس الجمهورية إميل لحود[20]. وقد شارك فيه الحريري بطريقة غير مباشرة عبر ممثلين محاولا الاحتفاظ بمسافة بينه وبين معارضي النظام السوري التقليديين من الأحزاب والشخصيات المسيحية والذين انضم إليهم لاحقا الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط وحركة اليسار الديمقراطي حديثة العهد حينذاك.
إثر اغتيال الحريري وتشييعه الحاشد في 16 فبراير/ شباط 2005 في وسط بيروت، انطلق حراك شعبي احتجاجي يقوده لقاء البريستول والأحزاب والمنظمات المنضوية تحته. وشمل الحراك أنشطة احتجاجية جماهيرية مثل المظاهرات والاعتصامات أهمها نصب مخيم احتجاجي “مخيم الحرية” قرب ضريح الحريري في وسط بيروت. وعرف الحراك حينها بأسماء مختلفة مثل “ثورة الأرز” و”انتفاضة الاستقلال” حيث رفع عدة مطالب وأهداف بينها: استقالة حكومة عمر كرامي، انسحاب القوات السورية من لبنان، تحقيق دولي في اغتيال الحريري.
وقد بلغت الاحتجاجات ذروتها في 14 مارس/ آذار 2005 بتظاهرة ضخمة جدا في وسط بيروت دعي إليها لمناسبة مرور شهر على اغتيال الحريري وردا على مظاهرة نظمها حزب الله والقوى المؤيدة للنظام السوري تحت شعار “شكرا سوريا الأسد” في 8 آذار/ مارس 2005 في ساحة رياض الصلح وسط بيروت.
وأسفر الحراك الشعبي والسياسي المحلي، وعوامل إقليمية ودولية مساعدة، إلى استقالة حكومة عمر كرامي وخروج القوات السورية من لبنان بشكل نهائي في 26 أبريل/ نيسان 2005 تنفيذا للقرار الدولي [21]1559 بعد حوالي ثلاثين سنة من دخولها إلى البلاد. وجرى تشكيل لجنة دولية للتحقيق باغتيال الحريري وفق قرار مجلس الأمن 1595 في 7 أبريل/ نيسان، كما أجريت انتخابات برلمانية في يونيو/ حزيران من العام نفسه[22]، والتي حققت فيها قوى 14 آذار أغلبية نسبية من مقاعد البرلمان مكنتها، من تشكيل حكومة برئاسة فؤاد السنيورة ضمت الخصوم في السياسة من حزب الله وحركة أمل وغيرهم لضرورات التمثيل الطائفي.
لكن الساحة اللبنانية كان عرضة لعمليات اغتيال ومحاولات اغتيال في 2005 استهدفت وجوها وقيادات بارزة في “انتفاضة الاستقلال” وحركة 14 آذار استمرت حتى 2007، بينهم نواب ووزراء وصحفيون وسياسيون بارزون.
سبق حراك “انتفاضة الاستقلال” تغيرات وضغوط في المشهد الإقليمي والدولي، خصوصا في إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 حيث أعلنت الحرب على الإرهاب وجرى احتلال أفغانستان في العام نفسه والعراق في 2003. أما سوريا فقد تعرضت لضغوط جسيمة من الولايات المتحدة في محاولة لتنفيذ مطالب وشروط عدة حملها وزير الخارجية كولن بأول إلى الرئيس السوري بشار الأسد في 3 مايو/ أيار 2003[23]. ولاحقا، صوت الكونغرس الأمريكي في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2003 على قانون محاسبة سوريا الذي يفرض عقوبات على البلاد ويتهمها بدعم الإرهاب وبزعزعة استقرار المنطقة وانتهاك سيادة لبنان[24].
وفي 2 سبتمبر/ أيلول 2004 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي يطالب جميع القوات الأجنبية المتبقية في لبنان بالانسحاب منه، في إشارة إلى القوات السورية. كما دعا القرار إلى حل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها، في إشارة إلى سلاح حزب الله. وأعلن تأييده بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع أراضيه، في إشارة إلى المخيمات الفلسطينية الخارجة عن سيادة الحكومة. كما أيد القرار إجراء انتخابات حرة ونزيهة من غير تدخل أجنبي[25].
حمل الحراك السياسي والشبابي والشعبي بين فبراير/ شباط ومايو/ أيار 2005 أسماء مختلفة بينها “انتفاضة الاستقلال” و”ربيع بيروت” و”ثورة الأرز”. وبما أن لكل تسمية حالة مفاهيمية وشروط لتحقيقها، يتوجب علينا التوضيح أن الثورات تشكل فاصل بنيوي وعقائدي عن النظام السابق ويستتبع ذلك تغييرات في البنيتين السياسية، والاقتصادية الاجتماعية للدولة. وتقوم الثورات بتغيير القيادة السياسية والتوجهات السياسية للدولة، وبالتالي فإن أي تحرك يستهدف التغيير في هيكلية الدولة دون بنياتها الاجتماعية فهو حرب أهلية، أو تمرد، أو انقلاب، ولكنها ليست ثورات[26]. وبناء على الأدبيات، نرى أن مفهوم الثورة لا ينطبق على هذه الحراك الاحتجاجي الذي انطلق في فبراير/ شباط 2005، وإنما هو يقترب من مفهوم الحركات الاجتماعية. إذ أن شكل النظام استمر على حاله مع تغيير فقط في الحكومة وهذا أمر دستوري في ظل إجراء انتخابات برلمانية جديدة. كما حافظت البلاد على بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
د- حملة إسقاط النظام الطائفي 2011:
في السابع والعشرين من شباط/ فبراير 2011، تداعى ناشطون ومواطنون لبنانيون إلى التظاهر للمطالبة بإسقاط النظام الطائفي[27]. واختار المنظمون خط سير المظاهرة بعناية وهو يمتد على طول خط التماس بين منطقتين شهدتا أشد معارك الحرب الأهلية ضراوة، وهما عين الرمانة ذات الغالبية المسيحية، والشياح ذات الغالبية الإسلامية.
ورفع آلاف المشاركين في هذا الحراك شعار “الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي” ولاحقا أضيفت له عبارة “ورموزه”. ويمثل هذا المطلب حالة أكثر جرأة وتقدما عن شعارات سابقة رفعها الحراك العلماني ومنظمات المجتمع المدني في لبنان، خصوصا في “مسيرة العلمانية” في 25 أبريل/ نيسان 2010[28]، التي طالبوا فيها بإقرار الزواج المدني وإلغاء القيد الطائفي في سجلات الأحوال المدنية وإقرار قانون انتخابات غير طائفي وغير ذلك.
حاول المشاركون والمنظمون محاكاة زخم الحراك الاحتجاجي في دول عربية مثل تونس ومصر والبحرين وليبيا من خلال شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، من خلال الدعوة إلى مظاهرات أسبوعية في أماكن مختلفة من العاصمة بيروت وبعض المناطق، استهدفت مؤسسات حيوية مثل كهرباء لبنان ووزارة الداخلية والبرلمان. وقد بلغت المظاهرات ذروتها من حيث الحشد غير المسبوق يوم الأحد 20 آذار/ مارس 2011 خلال مظاهرة انطلقت من منطقة الأشرفية معقل اليمين المسيحي في بيروت، مرورا بأحياء بيروتية تسكنها طبقات اجتماعية وفئات طائفية مختلفة وصولا إلى وزارة الداخلية[29]. ثم بدأت المظاهرات بالتراجع من حيث المشاركة بعدما تفاقمت الخلافات في صفوف المنظمين وصولا إلى انتهاء الحراك فعليا في مظاهرة 26 يونيو/ حزيران 2011 [30]، دون تحقيق أي هدف من الأهداف التي لم تجمع حولها المجموعات المنظمة بل اختلفوا إلى درجة أنه لم يجمعهم سوى شعار “إسقاط النظام” منذ الاجتماعات التنسيقية والتحضيرية في الأيام الأولى للحراك[31].
وقبل الخوض في الظروف التي أدت إلى اضمحلال الحراك، لا بد من استعراض السياق السياسي الذي أدى إلى ولادة حراك اسقاط النظام الطائفي. فقد جاء الحراك بعد 6 سنوات من الانقسام السياسي الحاد الناتج عن تداعيات اغتيال الحريري وسلسلة الاغتيالات والتفجيرات والحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز/ يوليو 2006. وقد تلا هذه الحرب استقالة الوزراء الشيعة من حكومة فؤاد السنيورة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2006، وأعقب ذلك قيام حزب الله وحلفائه في تحالف 8 آذار في كانون الأول/ ديسمبر 2006 بتنظيم اعتصام في ساحة رياض الصلح وسط بيروت للمطالبة باستقالة الحكومة.
وبلغ الانقسام أشده في 7 أيار/ مايو 2008 حيث أقدم حزب الله وحلفاؤه على اقتحام مكاتب تيار المستقبل الذي يتزعمه الحريري، في بيروت ومناطق أخرى وخوض اشتباكات مسلحة عنيفة مع الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط، وذلك ردا على قرارات لحكومة السنيورة تقضي بنزع شبكة اتصالات حزب الله ونقل مدير أمن المطار المحسوب على الحزب إلى موقع آخر. وبعد تدخل عربي ودولي، ووساطة من دولة قطر، أبرم اتفاق في الدوحة في 21 مايو/ أيار قضى بتشكيل حكومة ائتلافية من فريقي 8 و14 آذار، الاتفاق على قانون انتخابات برلمانية، وانتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيسا للجمهورية بدلا من إميل لحود الذي انتهت ولايته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2007[32].
إذن، أعاد اتفاق الدوحة ترتيب البيت السياسي اللبناني إلى وضع ما قبل اغتيال الحريري لجهة اشتراك الطبقة السياسية التقليدية الطائفية في الحكم وتقاسم المواقع والمناصب وفق محاصصة طائفية. وفاقم تضعضع قوى 14 آذار، المشهد السياسي خصوصا مع انسحاب التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون وانضمامه إلى تحالف مع حزب الله في فبراير/ شباط 2006.
في هذا السياق، انطلق حراك إسقاط النظام الطائفي متأثرا بثورات الربيع العربي بعد أن وجدت شريحة من اللبنانيين، تضم ناشطين ومدونين، نفسها مهمشة غير قادرة على التغيير. وخابت كل أمالها بالطبقة الحاكمة، التي يمكن تشبيهها بديكتاتورية متعددة الرؤوس تهيمن على الحكم، لجهة إلغاء الطائفية السياسية وإجراء انتخابات برلمانية وفق قانون عصري غير طائفي يضمن تمثيل القوى المختلفة.

النقاش:
استنادا إلى كل ما سبق، لا سيما تعريفات مفهوم الحركات الاجتماعية واستعراض نشأة كل من حركة “ثورة الأرز” وحركة “حملة إسقاط النظام الطائفي” وظروف التشكل والسياقات السياسية والاجتماعية، نستعرض بشكل مقارن الفروقات والتباينات بين الحركتين بما يظهر كيف انعكس ذلك على تحقيق حركة “ثورة الأرز” لمعظم أهدافها بينما أخفقت حركة “إسقاط النظام الطائفي”، وفق المحددات التالية:
1- سياق وظروف النشأة:
نشأت حركة “ثورة الأرز” في سياق دراماتيكي دموي ضرب لبنان وإجماع سياسي وشعبي من مختلف الأطراف على إدانة جرائم الاغتيالات وأولها اغتيال رفيق الحريري. ثم أن التململ الشعبي من الوصاية السورية على لبنان لا سيما لجهة الضغوطات لتمديد ولاية رئيس الجمهورية إميل لحود أدت إلى ابتعاد حلفاء النظام السوري التقليديين عنه مثل الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة جنبلاط وتمايز تيار الحريري أيضا مما انعكس على القواعد الشعبية السنية والدرزية لهذين التيارين الكبيرين. أما القواعد المسيحية فهي معارضة تاريخيا للوصاية السورية التي تسببت بنفي ميشيل عون وسجن سمير جعجع، وهما أبرز قياديان مسيحيان في لبنان ابتداء من الثمانينيات وحتى اليوم. ويذكر أن من نتائج “ثورة الأرز” غير المباشرة عودة عون من منفاه الفرنسي في 7 مايو/ أيار 2005 والعفو عن جعجع وإطلاق سراحه في 18 يوليو/ تموز 2005.
استفادت حركة “ثورة الأرز” من مواقف القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا لا سيما في إصدار القرار 1559 وقبل ذلك قانون محاسبة سوريا، وما تلا ذلك لجهة الضغط من أجل انسحاب القوات السورية من لبنان وإجراء تحقيق دولي باغتيال الحريري الذي كان شخصية سياسية رئيسية في البلاد، ويحمل الجنسية السعودية ويتمتع بشبكة علاقات دولية واسعة وصداقة حميمية مع بعض قادة العالم بينهم الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.
إذن، انخرطت في “ثورة الأرز” أحزاب سياسية تقليدية لها خبراتها وقدراتها السياسية والمادية وتتمتع بقواعد شعبية على مستوى الطوائف في لبنان باستثناء الطائفة الشيعية التي يتمتع ممثلوها السياسيون، حزب الله وحركة أمل، بعلاقات ممتازة مع النظام السوري. هذا عدا عن التفوق العسكري الذي يتمتع به حزب الله، باسم مقاومة إسرائيل، وانعكاس ذلك نفوذا في السياسة وصنع القرار وإثارة التخوف عند بقية الطوائف في لبنان.
أما حركة “إسقاط النظام الطائفي” فولدت من مجموعات شبابية تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي لا تتمتع بخبرة الحشد والتعبئة مثل الأحزاب التقليدية، بالإضافة إلى أنها بلا قيادة أو وزعامة مؤثرة في المشهد السياسي والشعبي قادرة على الاستقطاب والحشد. حاولت هذه الحركة استلهام تجربة الربيع العربي في ظل حماس شبابي لكن في بلد تحكمه طبقة سياسية طائفية توفر لقواعدها المصالح والمنافع والخدمات مقابل كسب الولاء. كما أن حركة إسقاط النظام الطائفي تفتقد لوجود شخصيات سياسية تشغل مناصب برلمانية أو حكومية، خلافا لحركة “ثورة الأرز” التي يتصدر مشهدها زعماء سياسيون لبنانيون ونواب ووزراء وشخصيات عامة من كتاب وصحفيين معروفين. وهنا تبرز أهمية النخب المؤيدة للديمقراطية والقادرة على دمج مطالب الديمقراطية القادمة من الأسفل[33].
ومن جهة أخرى، فإن حركة إسقاط النظام الطائفي انطلقت في ظل استقطاب سياسي طائفي حاد بالبلاد حيث احتشدت القواعد الشعبية الطائفية خلف زعاماتها التقليدية حيث لم يحد التركيز على المطالب الوطنية يحتل أولوية بقدر ما هو الحفاظ على الوجود والمكتسبات لا سيما في ظل تفوق حزب الله العسكري والذي ظهر في أحداث 7 أيار/ مايو 2008، بالإضافة إلى استقالة الوزراء الشيعة والمسيحيين من حكومة سعد الحريري في 12 يناير/ كانون الثاني 2011 بسبب خلافات تتعلق بالتحقيق الدولي في اغتيال الحريري ودور المحكمة الدولية، وبالتالي سقوط الحكومة واعتبارها مستقيلة لعدم حفاظها على النصاب الدستوري، فيما وصف بالانقلاب على الحريري وعلى اتفاق الدوحة.
2- التنظيم والأهداف:
أجمعت “ثورة الأرز” على أهداف واضحة ومشتركة صاغتها قيادة موحدة تجمع بينها هوية جماعية ومجموعة من المعتقدات المشتركة. وهذه الأهداف تبدأ بالمطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان والتحقيق الدولي باغتيال الحريري وصولا إلى إسقاط حكومة عمر كرامي. وأشرفت قيادة موحدة تضم ممثلين عن مختلف القوى المشاركة في الحراك على تنظيم النشاطات الجماعية حيث أنها انبثقت عن “لقاء البريستول” ثم لاحقا تشكلت هيئة عرفت باسم الأمانة العامة لقوى 14 آذار لتكون الإطار الرسمي والتنظيمي الذي يجمع الأحزاب والشخصيات المشاركة في هذا الحراك وتحويله إلى ائتلاف سياسي.
في المقابل، اتفق المنظمون لحراك إسقاط النظام الطائفي على مطلب إسقاط النظام فقط، لكن كيف؟ وماذا بعد إسقاطه؟ وما هو البديل؟ ماذا عن الدستور الحالي واتفاق الطائف؟ هل المطلوب دولة علمانية على غرار العلمانية التونسية في ظل بن علي أو دولة مدنية لا طائفية؟ ماذا عن الموقف من حزب الله وسلاحه؟ ماذا عن الموقف من الحراك الاحتجاجي في دول عربية وخصوصا سوريا؟ بقيت هذه الأسئلة وغيرها بلا إجابة حتى انفضاض الحراك[34]، لا بل أن هذه الأسئلة هي التي أدت إلى وئده وقضت عليه وفق ما يقول ناشطون ومدونون شاركوا في هذا الحراك. إذ “أن نسيج حراك إسقاط النظام الطائفي لم يكن يوما متجانسا سياسيا، بل يحمل تناقضات كبيرة، وهذا طبيعي، والطبيعي أيضا هو أن يتحوّل هذا الحراك إلى أشكال أخرى متمثلة، اليوم، بتيارات مختلفة، عندما لا يستطيع الجسم التنظيمي أن يحتمل هذه التناقضات، ويكون بحاجة لأن يُستبدل بأشكال أخرى”[35].
ومن هنا صدرت دعوات لإنتاج خطاب دقيق إذ أن المتظاهرين يطالبون بإسقاط النظام الطائفي، والنظام في لبنان عمليا هو شبه علماني، فيما العقدة بحد ذاتها هي في القوانين الطائفية مثل الانتخاب، الجنسية، الزواج، الأحوال الشخصية، وغيرها[36]. بعد أن اعتبر البعض أن شعار “الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي” قد أربك اتجاهات الحراك ونشاطاته ما جعله غير محصنا من اختراق الاحزاب السياسية الطائفية إلى صفوفه، بالإضافة إلى جعل القيمين على الحراك يضيعون أوقات اجتماعاتهم بخلافات بينها الخلاف الشهير “دولة مدنية” أو دولة “علمانية”[37].
3- الموارد وأدوات التعبئة:
امتلكت القوى المشاركة في “ثورة الأرز” قدرات مالية ضخمة، لا سيما أن زعماء أحزابها هم من أثرياء لبنان والمنطقة مثل آل الحريري وجنبلاط وغيرهما. هذه القدرة المالية ساعدتها في دفع مخصصات لمتطوعين وتفريغ موظفين وتوفير مختلف المتطلبات اللوجستية والفنية والإعلانية للأنشطة المختلفة. هذا فضلا عن امتلاك أحزاب وقوى “ثورة الأرز” أيضا لمؤسسات إعلامية تقليدية مثل الصحف والإذاعات والتلفزيونات المحلية والفضائية بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية. ساهم ذلك بقوة في بلورة وتشكيل وسائل التعبئة فهي لم تحتاج للفت نظر وسائل الإعلام لأنها تمتلكها أصلا بل خصصت الأخيرة لها التغطيات المفتوحة والداعمة والحاشدة لمظاهراتها ونشاطاتها ولمواجهة الفريق الآخر الخصم من خلال جمع معلومات ذات مصداقية ونشرها وبثها بشكل استراتيجي وبانتباه.
خلافا لذلك، كانت حركة إسقاط النظام الطائفي تفتقر لكل ما سبق، فلجأت إلى الاعتصام والاحتجاج لجذب انتباه وسائل الإعلام إليها. كما حاولت وضع خطط سير لمظاهراتها لاختراق أحياء وشوارع مختلفة عن تلك التي اعتادت على المظاهرات السياسية والعمالية التقليدية، في محاولة للفت النظر أكثر واستقطاب فئات جديدة.
وللمفارقة فإن وسائل الإعلام التي حاولت الحركة الاحتجاجية جذب انتباهها، كانت مملوكة بمعظمها من النظام الطائفي التي تريد إسقاطه. وهذا أوقع الحركة ومنظميها في فخ نجح في إرباك الحراك وإثارة الخلافات والتناقضات بين مكوناته وإظهارها إلى الرأي العام عبر شاشات التلفزيون. وقد أقر المنظمون للحراك بذلك واعتبروه أنه ساهم في ضربه بالضربة القاضية، عبر صبغه طائفيا، في ظل عدم وجود تنظيم متين وصلب، لا تخرقه الأجهزة الأمنية والحزبية الكثيرة، وعدم وجود مجموعة متحدثة باسم الحراك تراقب الإعلام وتتدخل حينما يجب، مزيلة الالتباس الذي يبنيه المتحدثون باسم الحراك من ناحية، وناشرة كافة التحركات وداعية إليها من ناحية أخرى[38].
ومن جهة ثانية، أسفر ذلك عن اعتماد منظمي الحراك على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل وصفه مشاركون بالحراك بأنه مبالغ فيه. إذ أن الإعلام الاجتماعي هو أداة تواصل، لا أداة تنظيم ولا حزبا سياسيا، بالإضافة إلى أنه يعطي شعورا زائفا بالامتداد الشعبي ويؤثر سلبا في الكثير من الأحيان على التواصل الحقيقي مع الناس والاقتراب من القواعد الشعبية[39]، وهي أحد أهم العناصر الوظيفية للحركات الاجتماعية.

الخلاصة:
تصعب المقارنة المتساوية بين حراك “ثورة الأرز” و”إسقاط النظام الطائفي” فكل منهما ظروفه وسياقه وقدراته. لكننا حاولنا في هذه الورقة الإضاءة على دور الحركات الاجتماعية في النظام السياسي والتحول الديمقراطي رغم أن الحركتين المذكورتين لم تغيرا في النظام اللبناني بشكل جذري لكنهما رفعتا من نسبة الوعي داخل الجماعات المضطهدة، وهو ما يركز عليه منظور “العملية السياسية” في الحركات الاجتماعية.
إذ أننا نرى أن “ثورة الأرز” هي التي أسست بشكل أو بآخر لحراك “إسقاط النظام الطائفي” حيث أن الكثير من المنظمات لا سيما اليسارية التي شاركت في “ثورة الأرز” هي التي ساهمت في إطلاق حراك إسقاط النظام. فهذه المنظمات والجماعات قد خاب أملها لاحقا من اتفاقات المحاصصة التي عقدتها قوى 14 آذار مع 8 آذار لا سيما في الانتخابات البرلمانية في 2005 و2009 وتشكيل حكومتي السنيورة والحريري مرورا باتفاق الدوحة في 2008.
ورغم إقرار منظمي حراك إسقاط النظام بالفشل إلا أن جزءا منهم أيضا أسهم في إطلاق حراك متواضع نسبيا ضد التمديد لمجلس النواب في 2013 تصدرته مجموعة “من أجل الجمهورية”، وذلك بعد فشل القوى السياسية في التوصل إلى قانون للانتخابات. ولم يمنع ذلك من وقوع التمديد لمرة ثانية أيضا في 2014 بسبب عدم الاتفاق على قانون للانتخابات يضمن للأطراف السياسية التقليدية التمثيل الذي يناسبها.
في هذه الأثناء، تفجر حراك احتجاجي آخر سببته أزمة النفايات في صيف 2015 عرف باسم “طلعت ريحتكم” سرعان ما عاد هذا الحراك إلى شعارات المطالبة بمكافحة الفساد والمحاصصة والمحسوبية وإلغاء الطائفية السياسية وإسقاط النظام الطائفي. خيم الحراك على أشهر الصيف من خلال اعتصامات ومظاهرات متواصلة صدعت حكومة تمام سلام واضطرتها إلى الاستماع إلى المطالب والالتفاف عليها لجهة التنفيذ. لم يصمد حراك “طلعت ريحتكم” كثيرا لأسباب تتشابه مع تلك التي استعرضناها أعلاه عند الحديث عن حراك “إسقاط النظام الطائفي” لا سيما لجهة اختراق الحراك بمجموعات تنتمي للأحزاب الطائفية وتشويه صورة المتظاهرين من خلال مندسين تعمدوا الاشتباك مع القوى الأمنية، هذا عدا عن وجود مجموعة من المتسلقين تحاول جني ثمار جهود غيرها.
في المحصلة، ساهمت هذه الحركات الاجتماعية منذ ربيع 2005 وحتى اليوم في رفع الوعي السياسي لدى الشباب اللبناني ومنظمات المجتمع المدني لجهة دورها في النظام السياسي والمراقبة والحشد والتعبئة والتغيير الديمقراطي، إلا أن ذلك لا يعني أن البنية الطائفية للنظام اللبناني هشة وتسقط بين ليلة وضحاها. ولعل هذا الدرس الذي أشار إليه المدونون والناشطون في حراك إسقاط النظام الطائفي بأن التغيير يجب أن يكون من القاعدة لا من رأس الهرم إذ أن الطائفية في لبنان لديها جذورها المتينة ضمن السياقات الاجتماعية والثقافية المختلفة، وبالتالي يجب معالجة أساس المشكلة الطائفية في المجتمع وبين الناس.
المراجع:
[1]Caramani, Daniele. 2014. Comparative Politics. Oxford: Oxford University Press. p.268.
[2] غيورغ سورنسن. 2015. الديمقراطية والتحول الديمقراطي: السيروات والمأمولات في عالم متغير. ترجمة عفاف البطاينة. مراجعة عبدالرحمن شاهين. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ص.ص. 116-117.
[3] تامر خرمة، ربيع وهبة، سلامة كيلة، عبد الرحيم منار السليمي، عمرو الشوبكي، فارس اشتي، لطفي بومغار، محمد العجاتي، نوران سيد أحمد، و هبة رؤوف عزت. 2014. الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي (مصر – المغرب – لبنان – البحرين – الجزائر – سورية – الأردن). الثانية. تحرير عمرو الشوبكي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص.ص. 58-60.
[4] تشارلز تيلي. 2005. الحركات الاجتماعية 1768-2004. ترجمة ربيع وهبه. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة. ص.20.
[5] Caramani, op. cit., p. 269.
[6] Ibid., p.270.
[7] Hopkins, Nicholas S., and Saad Eddin Ibrahim. 2006. Arab Society: Class, Gender, Power and Development. 3rd. Cairo, New York: The American University in Cairo Press. p.423.
[8] Rossi, Federico M., and Donatella Della Prota. 2009. “Social Movement, Trade Unions, and Advocacy Network.” In Democratization, by Christian W. Haerpfer, Patrick Bernhagen, Ronald F. Inglehart and Christian Welzel, 172-185. Oxford: Oxford University Press. p.174.
[9] Pincus, Steven. 2009. “Rethinking Revolutions.” In The Oxford Handbook of Comparative Politics, by Carles Boix and Susan C. Stokes, 397-415. Oxford: Oxford University Press: 2009. p.398.
[10] Political Process
[11] Caramani, op. cit., p. 272.
[12] “الدستور اللبناني.” مقدمة الدستور. “الفقرة ج”. تاريخ الوصول 21 مايو/ أيار, 2017. https://goo.gl/50l9Bm.
[13] آرنت ليبهارت. 2006. الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد. ترجمة حسني زينه. بغداد – بيروت: معهد الدراسات الاستراتيجية. ص. 226.
[14] عدنان السيد حسين. 2010. “الحالة اللبنانية.” كيف يصنع القرار في الأنظمة العربية، دراسة حالة: الأردن – الجزائر – السعودية – السودان – سورية – العراق – الكويت – لبنان – مصر – المغرب – اليمن، أحمد يوسف أحمد و وآخرون، تحرير نيفين مسعد، 405-446. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
[15] Freedom-House. 2016. Lebanon | Country Report| Freedom in the World. Accessed May 21, 2017. https://freedomhouse.org/report/freedom-world/2016/lebanon.
[16] خرمة، تامر وآخرون. مرجع سابق. ص. 171.
[17] غسان سعود. (22 كانون الأول/ ديسمبر, 2006). 7 آب… يوم ضاق لبنان بالديموقراطية. تاريخ الاسترداد 22 مايو/ أيار, 2017، من http://www.al-akhbar.com/node/155866
[18] Transperancy-International. 2016. Transperancy International – Lebanon. Accessed May 21, 2017. https://www.transparency.org/country/LBN.
[19] تعود التسمية إلى فندق البريستول في بيروت الذي كانت تجري فيه اجتماعات المعارضة اللبنانية.
[20] طانيوس جريس شهوان. 2012. انتفاضة الاستقلال. بيروت: دار الساقي.
[21] القرار الدولي 1559 الصادر عن مجلس الأمن في 2 سبتمبر/ أيلول 2004 وطالب جميع القوات الأجنبية المتبقية في لبنان بالانسحاب منه وحل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها.
[22] خرمة، تامر وآخرون. مرجع سابق. ص. 174-175.
[23] محمد سيد رصاص. 2013. سوريا وغزو العراق : بدء الحملة الأميركية. 30 مارس/ آذار. تاريخ الوصول 22 مايو/ أيار , 2017. http://www.al-akhbar.com/node/180336.
[24] Congress.gov. 2003. Syria Accountability and Lebanese Sovereignty Restoration Act of 2003. Accessed May 22, 2017. https://www.congress.gov/bill/108th-congress/house-bill/1828.
[25] الجزيرة. 2006. نص قرار مجلس الأمن رقم 1559. 24 يوليو/ تموز. تاريخ الوصول 22 مايو/ أيار, 2017. http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/d072afcd-0ad8-49bb-90d1-9c4a67b63e78
[26] Pincus, op. cit., p.399.
[27] Reuters. 2011. Lebanese protest against sectarian political system. February 27. Accessed May 23, 2017. http://af.reuters.com/article/egyptNews/idAFLDE71Q08L20110227.
[28] بي بي سي. 2010. لبنان: مسيرة”العلمانيين” تدعو لالغاء النظام الطائفي في البلاد. 25 أبريل/ نيسان. تاريخ الوصول 23 مايو/ أيار, 2017. http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2010/04/100425_lebanon_march_tc2.shtml.
[29] الجزيرة. 2011. لبنانيون يطالبون بإسقاط الطائفية . 20 مارس/ آذار. تاريخ الوصول 23 مايو/ أيار, 2017. http://www.aljazeera.net/news/arabic/2011/3/20/%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%86-%d9%8a%d8%b7%d8%a7%d9%84%d8%a8%d9%88%d9%86-%d8%a8%d8%a5%d8%b3%d9%82%d8%a7%d8%b7-%d8%a7%d9%84%d8%b7%d8%a7%d8%a6%d9%81%d9%8a%d8%a9
[30] أحمد محسن. 2011. “تظاهرة الأحد «رجعت» بالأحمر.” جريدة الأخبار. 27 حزيران/ يونيو. تاريخ الوصول 23 مايو/ أيار, 2017. http://www.al-akhbar.com/sites/default/files/pdfs/20110627/p06_20110627.pdf.
[31] جريدة الأخبار. 2011. صراخ في الأونيسكو… عداء بين «الثوّار» والغرف المغلقة. 7 مارس/ آذار. تاريخ الوصول 23 مايو/ أيار, 2017. http://www.al-akhbar.com/node/5792.
[32] خرمة، تامر وآخرون. مرجع سابق. ص. 176-177.
[33] Rossi, op. cit., p. 182.
[34] مدونة نينار. 2011. إسقاط النظام الطائفي: بعض الأسئلة الصعبة. 14 مارس/ آذار. تاريخ الوصول 24 مايو/ أيار, 2017. https://saghbini.wordpress.com/2011/03/14/%D8%A5%D8%B3%D9%82%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85/.
[35] باسم شيت. 2012. “الحراك من اجل اسقاط النظام الطائفي ورموزه: دروس واستنتاجات.” الثورة الدائمة. تاريخ الوصول 24 مايو/ أيار, 2017. http://permanentrevolution-journal.org/ar/issue1/anti-sectarianism-movement-lebanon-lessons.
[36] مدونة تريلا. 2011. الشعب يريد إسقاط (رموز) النظام…. 22 آذار/ مارس. تاريخ الوصول 24 مايو/ ايار, 2017. http://trella.org/2661.
[37] مدونة عطالله السليم. 2011. لماذا فشل حراك إسقاط النظام الطائفي: ما لم يقل بعد! 6 ديسمبر/ كانون الأول. تاريخ الوصول 24 مايو/ أيار, 2017. https://atallahalsalim.wordpress.com/2011/12/06/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%81%D8%B4%D9%84-%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D8%A5%D8%B3%D9%82%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%A7/.
[38] باسل صالح. 2012. حملة «إسقاط النظام الطائفي في لبنان».. تقييم التجربة. تاريخ الوصول 24 مايو/ أيار, 2017. https://www.bidayatmag.com/node/308.
[39] مدونة نينار. 2011. أسباب عدم حضور “التظاهرة ضد النظام الطائفي”. 26 فبراير/ شباط. تاريخ الوصول 25 مايو/ أيار, 2017. https://saghbini.wordpress.com/2011/02/26/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b8%d8%a7%d9%87%d8%b1%d8%a9-%d8%b6%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b8%d8%a7%d9%85/.