هل سافرت يوماً إلى إريتريا؟
هل فكرت يوماً بالتجول في عاصمتها أسمرا، والانتقال براً إلى إثيوبيا؟
ماذا لو قلت لك أن هناك رحلة منها إلى إسرائيل على متن طائرة شحن، هل تذهب؟
على أي مستوى يقفز الأدرينالين في داخلك لو هبطت طائرتك في مطار بن غوريون، وانتقلت بعدها إلى القدس؟
حدثني عن أنفاسك وأنت تتجول في البلدة القديمة بين كنيسة القيامة والمسجد الأقصى وجبل هرتزل تحت عيون الجنود الإسرائيليين والمستوطنين والمقدسيين؟
سبق وأن سميت نفسك بأكثر من اسم ونسجت حول نفسك الحكايات تلو الحكايات؟
تذوقت مرارة اللجوء والذل والعنصرية؟
أذقت غيرك الخداع والغدر والكذب والسرقة؟
لا تخبرني بل أجب نفسك.. واقذف بنفسك في الأعماق حتى لا تكون رغوة تطفو، سوداء كانت أم بيضاء.

إريتريا البداية
فإذا ما هاجت الدنيا كثر زبدها، “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” ولك أن تختار فيما خيرّتك “الرعد”، لكن هل ترك لنا الاستبداد خياراً أصلا؟
أدال أنت أم ديفيد أم دافيت أم داود. ملحد أنت أم مسلم أم مسيحي أم يهودي. لا يهم أنت رغوة سوداء. رغوة مثل رغوات أخرى تتقاذفها أمواج الاستبداد والقهر واللجوء من بحر الحبشة إلى بلاد الله الواسعة وأقربها “أرض الميعاد”.
هو حجي جابر، سفير آلام وآمال القرن الأفريقي إلى عالم الأدب والرواية. يحكي لنا حجي قصة من نسج الخيال الواقعي، الذي يحدث كل يوم ولا نسمع به، عن معاناة اللاجئين الفارين من إريتريا وإثيوبيا إلى إسرائيل.
دقيق حجي في وصفه. لا ينسى أقل تفصيل. سواء في أحياء أسمرا أم في مراكز التسجيل ومخيمات اللجوء في إثيوبيا. لا يفوته حتى أسفلت مطار بن غوريون ولا أزقة القدس. ولا يحبس داخله أو داخل “أدال” تناقض الأحاسيس بين النظر إلى قبة الصخرة الذهبية والتحديق بشغف بالقبة الفضية للجامع القبلي.
مذهل الانتقال بين أحداث “رغوة سوداء” والعودة إليها. تكنيك متقن في الانتقال من حدث إلى آخر ثم العودة إليه. متعب للراوي هذا التقطيع بيد أنه يضاعف من المتعة والتشويق ويبقي خلايا الدماغ متيقظة. ثمة روايات تجوز قراءتها بكسل وارتخاء أما “رغوة سوداء” فتحفز على النشاط.

وجوه سوداء أقنعة بيضاء
بين الأبيض والأسود لا مسافة رمادية. إما أنك تنتمي إلى البيض أم إلى السود. فلم يحدثنا فرانز فانون في “معذبو الأرض” وباقي أدبياته عن وجوه ببشرة رمادية.
لكن يحدث أن يكون هناك سود يرتدون أقنعة بيضاء. فقد حذرنا منهم فانون واستعرض لنا حجي أمثله عنهم في “رغوة سوداء”. وجوههم سوداء إلا أنهم يمارسون أقذر أفعال الرجل الأبيض المستعمر.
فالعنصرية لا تنحصر بين الأبيض والأسود بل تفرق بين الأسود والأسود نفسه، وبين العربي الأبيض والعربي الأسود، وبين اليهودي الأبيض واليهودي الأسود. وهكذا، عنصرية تتجاوز الدين والعرق إلى لون البشرة.
لكن.. ليسمح لي أبا جابر وهو الذي نشأ وترعرع في جزيرة العرب حيث يختلط الأسود بالأبيض على هدي ابن عبد الله القرشي الهاشمي الذي أوصى الناس بأن أباهم واحداً وألا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى.
فأستغرب أن تقدم “رغوة سوداء” صورة لعربي عنصري يعاني هو نفسه من عنصرية المحتل الإسرائيلي. وكأن حجي يريد القول إن هذا العربي ينتقم من الذي أضعف منه، وهل هناك أضعف من ذي البشرة السوداء.

مظلومية العرب
هذا التمثيل للشخصية العربية في الرواية لم يقتصر على رجل من فلسطينيي الداخل أفرغ عنصريته على “أدال” بل تجلى أيضا في “سارة” التي تسكن حي الشيخ جراح المقدسي. وأغلب الظن أن “سارة” فلسطينية استأجرت المنزل من مقدسي حتى لا يجد بيته صار ملكاً للمستوطنين بحكم غيابه الدائم. فلماذا صورتها الرواية على أنها فلسطينية ذات وجه إسرائيلي مستعرب بأفعالها واستغلالها؟
ألم يكن هناك في كل القدس وفلسطين من يحنو على “أدال” سوى أحد المقدسيين من أصول أفريقية الذي قدم أجداده قبل عقود إلى مجاورة الحرم القدسي، ويعرفون بالـ”المجاورين”؟
وإذا كان العرب أو المسلمون من البيض عنصريين، فكيف صمد “المجاورون” كل تلك السنوات في فلسطين. أليس لأنهم أحفاد بلال والنجاشي!
وبما أنها “رغوة” فهذا لا يخالف سبر أعماق علم النفس. فالرواية تتلمس رابطا بين الجنس والثورة أو الغضب، أي تفترض، بناء على دراسات، أن ممارسة الجنس أو وجود حياة جنسية نشطة يقلل من فرص التعبير عن الغضب والثورة.

في الميزان
أكثر ما تفتقد إليه “رغوة سوداء” هو الصور ولو كانت تعبيرية خصوصاً لإرتريا التي نعرف القليل عنها، عدا عن الخرائط التوضيحية لموقع المدن ومراكز الاحتجاز.
لا ضير في أن تحتوي رواية على ذلك إذا ما كان فيه نفع للقارئ لا سيما في تفاصيل وأحداث وأمكنة يجهلها أو غامضة.
وقد أحسن حجي في توضيح معاني المصطلحات العبرية في سياق الحوارات والحبكة إذ وفر على نفسه وعلينا وجود حواشي للترجمة.
آخر مآخذي على “رغوة سوداء” هو التسارع غير المفهوم في الربع الأخير منها. وكأن “أدال” يستعجل النهاية لإغلاق الغلاف الخلفي للرواية على عكس الثلاثة أرباع الأولى حيث استنفد وقته في سرد حكاياته.
“رغوة سوداء” ستتعب حجي جابر، فما بعدها ليس كما قبلها. ونحن قراؤه وأصدقاؤه لن نرضى بأقل منها أو حتى بمثلها. فأي مأساة أخرى يحبك لنا حجي في قادم الأيام؟
🙂