في مسألة الأقليات.. كلنا أكثريات

عند كل منعطف تشهده دولة ما في منطقتنا تثار مخاوف على الأقليات الطائفية والعرقية، بدون أي اكتراث لحال الأكثريات منها. وللمفارقة أن من يثيرون هذه المخاوف آتون من وراء البحار لا يعرفون أو يتجاهلون ربما سياقات المنطقة ومكوناتها.

ولطالما وجدت الأقليات والأكثريات غطاء ودعما إقليميا أو دوليا ليس بدافع إنساني فقط بل أيضا في حسابات المصالح الاستراتيجية. لكن هذه الأقليات والأكثريات تجد نفسها في مواقف كثيرة بدون هذا الدعم لسبب أو آخر مما يجعلها في مواجهة مع أقرانها في المنطقة أو الوطن تستخدم فيها السجالات السياسية وحتى المدافع في حرب أهلية.

كيف يرى الذكاء الصناعي مدننا بعد ١٠٠ عام بدون حروب

وللمفارقة أن هذه الأقليات والأكثريات تعاني على حد السواء لأن قلة قليلة من أفرادها تسمي نفسها نخبة تتصدر المشهد السياسي والاقتصادي والإعلامي على حساب باقي أفراد مكونات هذه الطائفة والإثنية. فنجد أن هذه الطغمة تستخدم أفراد طائفتها وإثنيتها في بازار الصراعات مع المكونات الأخرى. فإذا ما وقع صلح كان على حساب عامة الطائفة وإذا وقعت حرب خيضت بأهلها ودمائها.

لا يقتصر الأمر هنا على طغمة تسمي نفسها رموزا أو ممثلين عن مكون ما، بل تمتد أيضا قوى إقليمية ودولية تجد فيها بيادق تحركها وفق لمصالحها مع قليل من الدعم الذي غالبا ما يكون شكليا وسرعان ما يختفي عندها تتحقق لهذه القوى مصلحة أكبر أو تضطر للمساومة والتخلي عن هذا البيدق أو ذاك للحفاظ على الملك الأكبر في رقعة الشطرنج الدولية.

بوضوح أكثر، حان الوقت ليفهم العرب المسلمون أنهم أكثرية بوحدتهم وأنهم أكبر من أين يكونوا بيادق في مشروع لهذا المحور أو ذاك ولو شاركهم الدين والمذهب نفسه خصوصا أن هذه المحاور تعلي من شأن قوميتها العرقية ومصلحتها على حساب دينها الذي يفترض أنه لا يفرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى.

أما الأقليات هنا، فإن أدركوا جيدا واقعهم التاريخي والثقافي فهم ليسوا بأقليات بل هم أبناء أكثرية ثقافية تسود في هذه المنطقة وأتباع حضارة تتخطى الدين والمذهب إلى عروبة ثقافية ولغوية واجتماعية تجمع ولا تفرق. فما يمس الأكثريات من تهديد احتلالي يمسهم وما يطال المنطقة من كوارث طبيعية وانقسامات سياسية وأزمات اقتصادية لا يفرق بين أقلية وأكثرية. والعكس صحيح، فالرخاء والرفاهية والحياة الكريمة والديمقراطية للجميع أيضا.

لا يعني ما تقدم أن الأمور وردية وبسيطة لكنها ليست مستحيلة، فالعقود الماضية كشفت ألا حكما فاسدا وظالما ومستبدا وطائفيا سواء كانت تقوده أكثرية أو أقلية دام واستمر. وبالتالي، تبرز الحاجة إلى وضع عقد اجتماعي يحفظ حقوق المواطنة وفق قيم المساواة والعدالة والديمقراطية والمساءلة والشفافية. والأهم هو التزام الجميع بهذا العقد والاحتكام إليه وقبول النتائج لأن البديل هو العودة إلى المربع الأول بالارتهان لمشاريع الخارج والاقتتال في الداخل.

إذا ما قرأنا في تاريخ الأمم والشعوب لوجدنا أن ما يجمعنا في هذه المنطقة سواء كنا أكثريات أو أقليات أكبر مما يفرقنا. فما يجمع الأمريكيين بعد حربهم الأهلية الضروس ووضعهم للدستور ووثيقة الحقوق وكذلك الأوروبيين عشية صلح ويستفاليا ولاحقا في دولهم الوطنية أقل بكثير مما يجمعنا. فلم يوحدهم لغة ولا تاريخ ولا ثقافة ولا حتى موروث حضاري بقدر التزامهم بعقد اجتماعي مدني يراعي خصوصياتهم واختلافاتهم وكذلك عدالة تمثيلهم رغم تاريخ مليء بالدماء والثارات والحقد بينهم.

يقول المرجع الشيعي العربي الراحل الإمام محمد مهدي شمس الدين في وصاياه لإخوانه الشيعة الإمامية إنه “في منطقتنا العربية الإسلامية لا توجد أقلية مسلمة أو أقلية مسيحية. توجد أكثريتان كبيرتان: إحداهما أكثرية كبيرة هي الأكثرية العربية التي تضم مسلمين وغير مسلمين، والأخرى هي الأكثرية الأكبر، وهي الأكثرية المسلمة التي تضم عربا وغير عرب…”. واستئناسا بهذا القياس فليجد كل مكون مظلته فهو إما عربي ثقافة وحضارة وانتماء وإما إسلامي دينا ومذهبا وممارسة. وفي أحيان كثيرة قد يكون هذا المكون من الأكثريتين معا.

إذن لا أقليات هنا فكلنا أكثريات وما ينقصنا هو عقد اجتماعي مدني ينظم العلاقة بيننا ونحتكم إليه في الحكم والتوافق والاختلاف ويضمن العدالة والمساواة والتمثيل والخصوصيات. فاستحضار سرديات التاريخ والميثولوجيا والأحداث التاريخية والوقائع العقائدية الخلافية لن يخدم مستقبل أحد بل سيزيد كما شاهدنا وشهدنا من عمق الانقسام والتشرذم. فهذه المنطقة بمكوناتها ومواردها الطبيعية وموقعها الجيوسياسي أصغر من أن تقسم لكانتونات انفصالية وانعزالية تعادي بعضها البعض، فالكل بحاجة للكل في إطار تكاملي لا بغيان فيه. ولكن هذا لا يعني عدم إعادة النظر بنظمها السياسية وفق فدراليات اتحادية أو كونفدراليات لا مركزية بشرط أن تضمن للناس بكل مكوناتهم الحرية والتنمية والرفاه والعدالة.

أضف تعليق