مع نضوج الظروف والسياقات الإقليمية وتوفر القرار الدولي لانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، يتأكد يوما بعد يوم أن مرحلة ما بعد “حرب الإسناد” التي خاضها حزب الله وزعم انتصاره فيها ليست كما قبلها. فالحزب اليوم والذي يتهم من قبل خصومه بمحاولة فرض مرشحه لرئاسة الجمهورية منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر ٢٠٢٢، لم يعد بإمكانه وفق مآلات هزيمته العسكرية وكذلك الإقليمية بسقوط نظام بشار الأسد أن يحقق انتصارات سياسية تحقق تطلعاته وتعكس توجهات ما كان يسمى بـ”محور المقاومة”.
لكن ووسط إدراك قادة الحزب بمن فيهم أمينه العام الجديد أن المعطيات الميدانية والسياسية ليست في صالحهم وقبولهم باتفاق وقف إطلاق النار وفصل المسار مع غزة، إلا أن أصواتا في الحزب هنا وهناك تستمر في إطلاق تصريحات فيها من التحدي والتهديد كما وأن الحزب لا يزال يعيش قبل تاريخ الثامن والعشرين من سبتمبر أو السابع من ديسمبر، ففي الأول قتل حسن نصر الله أيقونة الحزب التاريخية ومصدر قوته وساحر جماهيره، وفي الثاني فر بشار الأسد لتشهد سوريا ولادتها من جديد.
وبينما وصف أحد السياسيين المعارضين للحزب في لبنان حاله بأنه أشبه بسيارة انقلبت في واد سحيق ولم يبق منها سوى مذياع يصدر أصواتا عالية، فإن قادة الحزب بتصريحاتهم هذه لا تعكس الواقع ولا الحقيقة وهي أقرب لمن ينفخ الهواء في بالون على شكل نمر يخيف به خصومه ويتوعدهم، وكذلك يستنهض همم مناصريه المنكسرين بعد ما آلت إليه “حرب الإسناد” من خسائر بشرية ومادية مهولة وكارثية وتفكك إقليمي وتراجع استراتيجي.

وإذ يتعين على قادة الحزب هنا أن يصارحوا جماهيرهم وغالبيتها العظمى من الطائفة الشيعية بما وصلت إليها الأمور، فإنهم مطالبون وفق ما تقول طائفة من الشيعة المستقلين، بأن يجروا مراجعة شاملة للقرارات الكارثية خلال العقدين الماضيين. هذه المراجعة تبدأ بالتوقف عن الزج بالطائفة وامتداداتها في المنطقة في طريق انتحاري مثل “حرب الإسناد” في غزة، أو خوض معارك خارج الحدود دعما لطاغية مثل بشار الأسد أو تمكينها عسكريا لفصيل طائفي في بلد عربي آخر وغيرها. فما الذي جنته هذه القرارات على الحزب وبيئته الحاضنة سوى الخراب والدمار وآلاف القتلى والتحول إلى فئة تثير مخاوف بقية شركائها في الوطن وتستجلب العداء من المحيط العربي والإسلامي.
في المقابل، تقع مسؤولية كبيرة على القادة السياسيين الوطنيين في لبنان باحتضان الطائفة الشيعية. فهذه الطائفة المكسورة اليوم أقدم من حزب الله وستبقى بعده، وهي لها إسهامات حضارية وثقافية واقتصادية وعلمية وسياسية وعسكرية في بناء لبنان والدفاع عنه. فإن كان كل عضو في حزب الله هو حكما شيعي فإن العكس ليس صحيحا على الإطلاق. وإن استغل الحزب واقع الشيعة البائس والحرمان الإنمائي والتهميش السياسي في ثمانينيات القرن الماضي لاستقطابهم تحت مشروعه السياسي الطائفي المرتبط بالولي الفقيه في إيران، فهذا لا يعني أنه لو توفرت مشاريع سياسية بديلة قوية تكفل لهم ما وفره الحزب لهم سيعكفون عن الانتماء إليها ودعمها خصوصا إن كانت مشاريع تعمق ارتباطهم بهويتهم العربية.
ما كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان ضد الشيعة، بل طالت ضحاياها وخسائرها اللبنانيين من مختلف الطوائف وإن تركزت على حزب الله وبيئته التي لا تمثل كامل الطائفة. كما أنه شاهدنا كيف أن سقوط نظام الأسد الذي زعم حمايته للأقليات لم يؤثر سلبا على أحوال الشيعة في سوريا ولا حتى المقامات الدينية إذ تبين أن الشعار الطائفي “لن تسبى زينب مرتين” كان مجرد خديعة لتبرير دعم نظام الأسد المخلوع بوجه الثائرين ضده.
مثلما أن حزب الله أدراك الواقع الإقليمي والدولي الجديد ويسعى للتكيف معه في ظل تفكك المحور، فإنه اليوم يعكس هذا الإدراك على المستوى الداخلي بقبوله بالتوافق العربي والدولي على انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسا للبلاد، وهو المرشح الذي كان مرفوضا من قبل الحزب كونه يحظى بدعم أمريكي. وتبقى الأيام المقبلة كفيلة بإيضاح مدى نجاح الحزب في هذا التكيف بعد سنوات طويلة من ممارسة فائض القوة بالتعطيل السياسي والتهديد باستخدام القوة.
ليس حزب الله كيانا سياسيا عاديا ليجري اجتثاثه أو إلغاؤه، فالأحزاب والجماعات العقائدية الدينية أصعب من أن تقتلع. واعتادت على سنوات من القمع والمظلومية عبرت عنها بما يعرف بأدبيات وخطاب “المحنة” أو “الابتلاء” في محاولة لشحذ همم الأتباع والنهوض مجددا. كما أن محاولات أجهزة الاستخبارات الأجنبية، عبر مشاريع السفارات أو وكالات التنمية، لم تنجح في خلق بيئة موازية. لذا لا بد أن يخرج مشروع سياسي عربي من رحم الطائفة الشيعية يحظى بثقة أبنائها ويوفر لها الطمأنينة من مخاوف التهميش والغبن ويعيدهم إلى مظلة الدولة والمؤسسات.