مع سقوط نظام بشار الأسد ابتدع السوريون مصطلحا جديدا كعادتهم وهو “التكويع” لوصف حالة أولئك المؤيدين للنظام المخلوع الذين انضموا لتأييد الثورة بعد تحرير البلاد من الاستبداد. وللتذكير فإن هؤلاء المؤيدين كان يعرف المدنيون منهم باسم “المنحبكجية”، والمسلحون البلطجية منهم باسم “الشبيحة” وهي مصطلحات أيضا رسمها الثوار.
ولما كان مصطلح “منحبكجي” مشتق من شعار “منحبك” الذي رافق صور معظم صور الأسد وحملاته “الانتخابية”، فإن مصطلح “التكويع” من اللهجة المحكية الشامية فيعود إلى مصدر “كوع” وهو مفصل في يد الإنسان والفعل “كوّع” يشير إلى الالتفاف أو U Turn.

وبعيدا عن التأصيل والتفصيل، فإن هؤلاء المكوعين ينتمون لمختلف الشرائح من المواطن العادي البسيط إلى إعلاميين وسياسيين ودبلوماسيين وعسكريين “انشقوا” بعد هروب الأسد وسقوط النظام، مما جعل الثائرين يشككون بصدق تكويعتهم ويعتبرونها نفاقا.
لكن دعونا نقارب المسألة من منظور مختلف، فالتكويع إن صدق أمر محمود فهو من فضائل الاعتراف بالخطأ وأقرب إلى نقد ذاتي ومراجعة فكرية. وإذا دققنا في شخصياتنا ومساراتنا الحياتية ستجدون أننا جميعا كوعنا وغيرنا رأينا في قضية أو أخرى ونحمد الله الذي هدانا لهذا التكويع.
وفي مسألة تأييد الأسد هناك درجات ومستويات بين المكوعين، فلا يمكن مساواة تاجر دمشقي كان مهددا أو صناعي حلبي مرعوبا أو فنان مضللا وفاقدا للبصيرة، مع ضابط كبير أو دبلوماسي رفيع كان من أركان النظام ومتورط معه حتى ركبتيه في دماء السوريين. وتلك فئة لا يجب أن ينجيها تكويعها من المحاسبة القانونية والإفلات من العقاب.
لكل من المكوعين ظروفه، إلا أن الأخطر أن تصبح تهمة “التكويع” أداة للتمييز ضد السوريين ووصمة عار تلاحقهم، حينها سيتحول “المكوع” الصادق إلى منافق يتحين الفرصة للانتقام وركوب أقرب موجة لثورة مضادة تقودها العصابة العميقة من رموز النظام البائد في أجهزة الدولة بما فيها فلول الجيش، وشعب المخابرات، وكذلك حزب العبث الفاشي بمؤسساته وشبيبته وطلائعه.
وانطلاقا من دروس سنوات الثورة، فإن كثيرا من حالات الانشقاق عن النظام في أوج أيام تقدم الثوار وقبيل التدخل الروسي كانت تواجه بالتشكيك بأن أصحابها أقدموا على الانشقاق بعدما أدركوا قرب غرق سفينة الأسد. وبالتالي دفع هذا الأمر آخرين لإعادة النظر في محاولات القفز من السفينة طالما أن توبتهم المتأخرة لن تقبل، فسعوا في سد الفجوات والثقوب وإبقاء المركب المتهالك عائما قدر الإمكان. في المقابل، كان النظام يفتح ذراعيه للتسويات والمصالحات والعفو عن “المرتدين” عنه.
ولأن الثورة مطالبة بتقديم نموذج تغييري فإنه لا يليق بالثوار أن يتبنوا منهج ما يوصف بـ”التشبيح الثوري” أي أن يتشابه الثوار مع “شبيحة” الأسد في عدائهم وتخوينهم للمعارضين وتجريدهم من إنسانيتهم بوصفهم بأنهم قوارض وفيروسات.
وأسوة بالذي كان على خلق عظيم، فإن أبناء الثورة مساءلون في تعاملهم مع توبة المكوعين، فهل شققوا عن قلوبهم ليعلموا صدقهم من كذبهم؟ فالأولى حسن الظن وعدم الحكم على النوايا وكذلك على السوابق وتقدير ظروف وسياقات حدوثها. وقد يكون بين المكوعين من فيه فائدة للمرحلة الانتقالية والعبور إلى سوريا الجديدة بمعلومات مفيدة من المرحلة البائدة أو طاقات وخبرات ممتازة للفترة المقبلة وغير ذلك. ولنتذكر أنه حتى الإدارة السورية الجديدة ميزت في كيفية التعامل مع مسؤولي النظام الساقط وفلوله، فلا زال هناك مسؤولون في مناصبهم، وغيرهم أعطوا الأمان وآخرون ستتم محاسبتهم. فلم يتم وضع كل تركة النظام في سلة واحدة.
في النهاية، كان السوري يولد بعثيا بالإجبار وينشأ طلائعيا ويراهق في شبيبة الثورة ولا يجرؤ على فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان ويخشى من أن يكون للجدران آذان تتنصت على أنفاسه، حتى أن الأموات في سوريا الأسد كانت أصواتهم تحسب في الاستفتاءات. لكن مرة أخرى، لا يعني ذلك عدم محاسبة من تلطخت أيديه في دماء السوريين وتورط في الفساد وتمكين الأسد ونظامه في إطباق قبضته الحديدية على البلاد، فكما أن للسوريين لهم في من أرسل رحمة للعالمين أسوة حسنة إلا أنهم أيضا ألباب ولهم في القصاص عبرة وعبر. أما المكوعين نفاقا والمبدلين لجلدهم مع كل موسم فأولئك هم الدوارون ـمن دوارـ ولا يرقوا حتى للتكويع فقد عرتهم الثورة وكشفت زيف مواقفهم وكذبهم، وما الناس أغبياء ولا الثوار دراويش.