للمرة الأولى منذ أربعة عشر عاما تقريبا، يزور رئيس وزراء لبناني العاصمة السورية من دون أن يتلقى أوامر من حاكمها. إذ خلال ثلاثين عاما ربما أو أكثر، كان المسؤولون اللبنانيون يتلقون الإملاءات من قصر الشعب أو يتعرضون للتهديد والوعيد في مكاتبه، أو يصافحون من قتل أباءهم أو أحبابهم.

يمكن لزيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي إلى دمشق أن تدشن مرحلة جديدة في تاريخ العلاقة المعقد بين البلدين عقب عقود من الممارسات الاحتلالية لنظام العبث الفاشي وإن سماها الحجاج من ساسة لبنان إلى مكتب الضابطين السوريين غازي كنعان ثم رستم غزالة في بلدة عنجر بالبقاع لاحقا بالوصاية حتى لا يساووا بين الاحتلالين السوري والإسرائيلي.
حرصت الإدارة السورية الجديدة وعلى رأسها أحمد الشرع على إظهار الاحترام والود بما لا يخلو من ندية سواء في الترتيبات البروتوكولية ورفع العلمين السوري واللبناني في مختلف مواقع الزيارة، أما الأهم في ما تمخض عن المحادثات وفي جوهرها ضبط الحدود وترسيمها والتهريب والمعتقلين السوريين في لبنان إضافة إلى مصير ودائع السوريين في المصارف اللبنانية.
وكانت أولى علامات الندية والمعاملة بالمثل سبقت زيارة ميقاتي بإعلان الجانب السوري عن تدابير وإجراءات جديدة لدخول اللبنانيين إلى سوريا مشابهة لما يفرضه لبنان على السوريين، بعد أن كان مواطنو البلدين يعبرون الحدود الشرعية ببطاقة الهوية قبل أزمة اللاجئين.
وإذ أكد الشرع لزائريه اللبنانيين على حيادية دمشق تجاه الأطراف اللبنانية، شدد على نظرته لعلاقة استراتيجية وطويلة الأمد تبنى على أسس سليمة. ولعل أولى هذه الأسس أن تقوم العلاقة على احترام نهائية وسيادة ومصالح البلدين بالممارسات العملية والمؤسساتية بما يضمن الأفضل للمواطنين في سوريا ولبنان على السواء نظرا لما يربط بينهم من تاريخ ومصير مشترك وعقود من المعاناة والانتهاكات والجرائم التي ارتكبها حكم الطاغية، هذا إضافة إلى روابط الدم والنسب والقرابة.
ولتحال المسائل الخلافية مثل قضية هوية مزارع شبعا إلى التحكيم الدولي ولنا في مسألة جزر حوار بين قطر والبحرين نموذج يحتذى. فالمزارع كانت شماعة حزب الله منذ عام ٢٠٠٠ ثم ٢٠٠٦ للاحتفاظ بسلاحه بدعوى أنها لبنانية محتلة في وقت أنها تخضع للقرار الدولي ٢٤٢ المتعلق بالأراضي السورية المحتلة عام ١٩٦٧.
عندما خط قلم سمير قصير عبارته الاستشرافية الشهيرة “ربيع العرب حين يزهر في بيروت إنما يعلن أوان الورد في دمشق” في جريدة النهار في فبراير ٢٠٠١، كان لبنان ما زال تحت وطأة الاحتلال العسكري السوري ولم يكن مطلقا في حسبان الموالين لنظام الأسد هذا المصير المزلزل. إذ أن التغيير في لبنان كان مرهونا بالتغيير في سوريا والذي كان التفكير فيه حتى مستحيلا.
إلا أن عبارة قصير الخالدة اشترطت العكس أي أن ربيع العرب يجب أن يزهر في لبنان أولا قبل أن تقطف الورود في سوريا. ولقد كان ما كان، فقد تفكك محور إيران من لبنان بضربة قاضية على رأس حزب الله باغتيال أمينه العام ليتبين أن هذا المحور كان شخصا واحد هو حسن نصر الله، على حد وصف أحد الجنرالات اللبنانيين من أعضاء البرلمان.
وما إن قُطف الياسمين والفل في الشام حتى شهد لبنان بشكل غير مسبوق انتخاب رئيس للجمهورية في تعبيد لحقبة جديدة عنوانها أن الطريق إلى قصر بعبدا هو التوافق الوطني لا قرار طاغية الشام. فحرية سوريا من حرية لبنان، وحرية البلدين مرهونة بتوافق عربي تضامني وانفتاح دولي تعاوني دون تبعية لمحور هنا أو هناك.
فقد آن الأوان ليفهم السوريون أن لبنان ليس حديقة خلفية أو المحافظة السورية الخامسة عشرة وأنه لن يكون خاصرتهم الرخوة أو منطلقا لعداء ضدهم، ووجب عليهم الحذر من فئة “المكوعين” في لبنان الذين ينقلون البارودة من كتف لآخر طمعا بمكاسب من وصاية جديدة لا سمح الله.
كما آن الأوان ليدرك اللبنانيون أن سوريا بوابتهم إلى عمقهم العربي ورئتهم البرية الشرقية والشمالية التي يتنفسون من خلالها، وأنها ليست ساحة لتصفية الحسابات بين بعضهم البعض أو مكانا لتقديم الرشاوى أو للوشاية وحل خلافاتهم.
إذ يذكر التاريخ جيدا أنه رغم استقلال لبنان عام ١٩٤٣ ظلت فئة واسعة منه غير متقبلة فكرة الانفصال عن سوريا إيمانا منها بانتمائها إلى العمق العربي ورفضا لأي مشاريع انعزالية. فأتت الممارسات الاحتلالية لنظام حزب العبث الفاشي بتوجيهات حافظ الأسد منذ عام ١٩٧٦ لتجعل تلك الفئة تنفر من أحلام الوحدة وتؤكد على نهائية الكيان اللبناني في اتفاق الطائف عام ١٩٨٩.
عانى لبنان والعرب كثيرا من أفعال وجرائم نظام الأسد لا سيما دول الجوار، فتصنيع وتهريب الكبتاغون ليس سوى قشة في سجل قذر من عمليات اغتيال وتفجيرات وسرقة أموال وإيواء للإرهابيين وزعزعة استقرار وشق صفوف العرب والمسلمين. ولعل في سقوطه طي لصفحة سوداء قاتمة وفتح صفحة جديدة مشرقة لربيع العرب.