ما إن سقط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر المجيد حتى سارع الكثير من السوريين المنفيين والعرب المتضامنين وبينهم شخصيات عامة إلى التوجه نحو العاصمة دمشق لا سيما معالمها الشهيرة جامع بني أمية الكبير وساحة الأمويين التي يتوسطها السيف الدمشقي الشهير.
لا يشكك أحد في مشاعر الشوق المخلصة للهائمين بحب الشام والفرحين بتحريرها، إلا أن البعض خصوصا من الضيوف العرب كان مجرد توثيق حضورهم بالصوت والصورة عبء على السوريين والإدارة السورية الجديدة، هذا عدا عن تمريرهم رسائل سياسية تحريضية مبطنة وعلنية ضد أنظمة عربية وبثها على مواقع التواصل الاجتماعي لتلقي بثقلها على السوريين وتحملهم ما لا يتحملون.

وبينما حاول قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، في أولى مقابلاته للإعلام العربي، التنصل من هذه الأفعال بذكاء، أقدم أحد هؤلاء ممن يعرفون بالمهاجرين العرب الذين قاتلوا في سوريا على الإعلان عن تشكيل حركة سياسية تهدف لإسقاط نظام عربي. ودفع ظهوره المتكرر على مواقع التواصل إلى وضع الإدارة السورية الجديدة في حرج شديد مما اضطرها لمنعه.
منذ انطلاق معركة ردع العدوان، حرصت إدارة الشؤون السياسية على إصدار بيانات تطمئن الدول التي تربطها علاقات ببشار الأسد لا سيما روسيا والصين والعراق ولبنان والأردن إضافة إلى المجتمع الدولي، وكذلك بيانات توضح أنها ليست في مسعى للتدخل بالشؤون الداخلية لأي من الدول وأنها تسعى لعلاقات تحترم السيادة لكل دولة. وبالتزامن مع التقدم الميداني السريع والمبهر والانهيار غير المسبوق لقوات الأسد، أصرت إدارة الشؤون السياسية على إظهار حرصها على وحدة السوريين بإصدار بيانات تخاطب الأقليات العرقية والطائفية في البلاد من المسيحيين والعلويين والشيعة والكرد.
أدركت الإدارة السورية الجديدة منذ تحرير حلب أنه لا يمكن تحقيق الانتصار بإنجازات إدارة العمليات العسكرية وحدها دون عمل مواز وشاق تخوضه إدارة الشؤون السياسية وسط حقل ألغام إقليمي ودولي لتثبيت المكتسبات الميدانية وترجمتها باعتراف بسلطتها الجديدة وشرعيتها بعد هروب الأسد. وهذا النضج واحد من أبرز التحولات في مسار الفصائل الثورية وتعلمها من أخطائها بأن الميدان وحده ليس كفيلا بالانتصار. فالسلطة لا تقوم إلا بالسيطرة على أرض لها حدود واضحة يعيش فيها شعب وتحظى باعتراف دولي.
إن سعي الإدارة السورية الجديدة للحصول على اعتراف إقليمي ودولي لم يكن بالأمر السهل خصوصا أن نظام الأسد امتهن سياسة المحاور وارتمى أخيرا في المحور الإيراني الطائفي معاديا عمقه العربي وبعده الإسلامي. لذلك حرص أحمد الشرع، قائد الإدارة السورية الجديدة، على التأكيد أن زمن الثورة في سوريا انتهى، وأن زمن بناء الدولة قد بدأ. كما جدد التأكيد أن عقلية الثورة لا تبني دولة، متعهدا بحل هيئة تحرير الشام إذ لم يعد هناك مبرر لبقائها بعد تحرير الشام.
كثيرة هي الأعباء السورية الملقاة على كاهل الإدارة السورية الجديدة من بسط الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية وحصر السلاح بيد الدولة ولملمة جراح الناس ومواساة ذوي الضحايا والنهوض الاقتصادي. ورفع هذه الأثقال يحتاج إلى سواعد أشقاء سوريا وتوافقهم وتضامنهم لضمان استقرار البلاد والمنطقة بعد حقبة الأسد الذي اشتهر بالعبث والتحريض والتخريب وإثارة القلائل ما وراء الحدود.
ليس من ضمن أولويات السوريين اليوم أو حتى غد تصدير الثورة وهم الذين عانوا من سياسة تصدير الثورة الإيرانية التي عاثت بالمنطقة تفريقا وتخريبا وتدميرا. ولا حتى أن السوريين اليوم هم في مرحلة إسقاط “ثورة مضادة”، فهم تأخروا أصلا ثلاثة عشر عاما على اللحاق بـ ١٤ يناير ٢٠١١ حين هرب بن علي من تونس، و١١ فبراير ٢٠١١ حين تنحى مبارك في مصر، و٢٠ أكتوبر ٢٠١١ حين انتقم ثوار ليبيا من القذافي. لكنهم يرجون أن يكونوا قد تعلموا جيدا من مسار تلك الثورات حتى لا يقعوا في فخ إعادة تدوير النظام السابق سواء عبر صناديق الاقتراع وانقلابات سياسية أو عسكرية.
بينما تسعى سوريا الجديدة للخروج من سياسة المحاور ونسج أفضل العلاقات مع جيرانها وعمقها العربي، فإنها أيضا أمام تحديات جسام تتعلق بملف المقاتلين الأجانب أو ما يعرفون بالمهاجرين خصوصا أنهم مطلوبون في بلادهم. وفي انتظار أن يحدد البرلمان المقبل مصيرهم، كما أوضح أحمد الشرع، فإن أصواتا بارزة في صفوفهم بدأت تخرج تدعوهم لأن يكونوا رحمة على السوريين وأن يكونوا عونا لهم في بناء دولتهم لا عبئا عليهم. فسوريا بلد جديد خارج من ألف تحت الصفر، كما يقول أحد أبرز وجوههم، ليؤكد قائلا: لا ترهقوا السوريين بتحميلهم عبء خلافات مع الدول بإنشاء أحزاب أو تكتلات ترهق كاهلهم.