أثارت موافقة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة استغرابا شديدا وتساؤلات عدة خصوصا أن الاتفاق ببنوده ومراحله لا يمكن تمييزه عن ذلك الذي تم التوصل إليه في مايو ٢٠٢٤ ورفض المضي فيه.
بين مايو ٢٠٢٤ ويناير ٢٠٢٥ نحو ثمانية أشهر من المد والجزر في التصريحات والمفاوضات والجولات المكوكية لفرق التفاوض. وقبل ذلك، استمرار آلة القتل والتدمير في غزة والزج بمزيد من الجنود الإسرائيليين في مستنقع من الرمال لا يخرجون منه إلا جثثا أو مصابين.
فقد كان واضحا أن نتنياهو لا يريد اتفاقا خلال الأشهر الماضية وأنه مستمر في الحرب أيا كان الثمن، حتى أن ذوي الأسرى اتهموه بأنه لا يبالي بحياة أبنائهم ولا حتى باستعادتهم جثثا. فكلما كان المفاوضون يغلقون ثغرة في مسار المفاوضات حتى يحدث نتنياهو أو أحد وزرائه ثقبا أخرى.
فما الذي جرى وكيف وافق نتنياهو على اتفاق يرفضه تيار أقصى اليمين الديني في حكومته ويهدد قادته بالانسحاب من الحكومة وإسقاطها، وما يعنيه ذلك من القضاء على مستقبل نتنياهو السياسي.

يقول كثير من المراقبين للملف إن كلمة السر هي “دونالد ترمب”، وإن نتنياهو يريد أن ينجز الاتفاق في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة لا في عهد إدارة بايدن المنصرفة.
وبينما يرى هؤلاء المراقبون أن نتنياهو يريد أن ينسب الإنجاز لترمب تملقا وطمعا بالحصول على دعم ومكاسب جديدة خلال الأربع سنوات المقبلة، إلا أن هناك جانب آخر قد يكون أكثر أهمية يتمثل بخوف نتنياهو وخشيته من ترمب وإدراكه التام أن شخصيته تختلف تماما عن شخصية بايدن.
فالأخير، أي بايدن، يوصف بأنه من أسوأ الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة عدا عن كونه ضعيفا جدا أمام نتنياهو وجموحه الدموي. وهو ما أقر به في مقابلة مع قناة MSNBC، حين كشف كيف تعرض للتوبيخ والهجوم من نتنياهو عندما طالبه بوقف القصف في غزة. ويشهد التاريخ كيف أن إدارة بايدن فتحت مخازن الأسلحة على مصراعيها لإسرائيل ودشنت جسرا جويا محملا بالقذائف والصواريخ لتسهم في قتل نحو ٥٠ ألف فلسطيني. هذا عدا عن الحماية الدبلوماسية والسياسية في المحافل الدولية خصوصا في مجلس الأمن الدولي باستخدام الفيتو ضد قرارات وقف الحرب، إضافة إلى التهديدات للمحكمة الجنائية الدولية.
تشهد العلاقة بين ترمب ونتنياهو توترا ملحوظا خصوصا منذ عملية اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في ٣ يناير ٢٠٢٠ قبل مغادرة ترمب البيت الأبيض بحوالي أسبوعين. فترمب كشف في تصريحات عدة، أن إسرائيل كانت شريكة في التخطيط للعملية إلى أن انسحب نتنياهو من المشاركة في تنفيذها في الساعات الأخيرة خشية منه من الدخول في صدام مباشر مع إيران. الأمر الذي دفع ترمب إلى الغضب الشديد وتوجيه عبارات نابية إلى نتنياهو.
كما أن ترمب لم ينس كيف سارع نتنياهو في ٨ نوفمبر ٢٠٢٠ إلى تهنئة جو بايدن بفوزه في الانتخابات بينما كان ترمب لم يقر بهزيمته بعد ولم يصدق الكونغرس رسميا على النتائج.
يحمل ترمب اليهود الأمريكيين جزءا من المسؤولية على خسارته الانتخابات في ٢٠٢٠. إذ ذكر في أكثر من مناسبة انتخابية وباستياء وغضب، أنه رغم كل ما قدمه لإسرائيل لا يزال اليهود الأمريكيون ملتزمين بنمط تاريخي بتأييدهم بنسب أعلى وملحوظة لمرشح الحزب الديمقراطي.
ويستشهد ترمب وفريقه بأنه اعترف لإسرائيل بضم الجولان المحتل، وقام بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، عدا عن انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني الذي وقعه باراك أوباما. وقبل ذلك كله، الدور الكبير الذي بذله ترمب وكبير مستشاريه وصهره اليهودي جاريد كوشنير في التوصل لـ”اتفاقيات إبراهيم” للسلام مع الإمارات والبحرين، وتطبيع العلاقات مع المغرب والسودان.
ورغم زيارة نتنياهو إلى ترمب في مقر إقامته ببالم بيتش بولاية فلوريدا في يوليو الماضي وسط الحملة الانتخابية، إلا أنه يبدو أن ترمب لم يغفر له بعد.
ولترمب أيضا أسباب أخرى وإضافية تجعله يضمر الضغينة لنتنياهو تتعلق بموقف ترمب مما يسمى الدولة العميقة أو المنظومة التقليدية في الولايات المتحدة ”Establishment”. وليس هناك أوضح من ترمب في التعبير عن رأيه خصوصا على مواقع التواصل. فقد أعاد في ٧ يناير الماضي نشر فيديو لمقابلة مع الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس يهاجم فيها نتنياهو بأنه يقوم بالتلاعب بالإدارات الأمريكية منذ ١٩٩٥ وتوريطها في حروب لا منتهية في المنطقة خدمة لمصالحه، وما يعني ذلك من تكلفة سياسية واستراتيجية ومالية باهظة تسددها الولايات المتحدة.
وكان ترمب قد تعهد خلال حملته الانتخابية بإيقاف الحرب في غزة منذ اليوم الأول. وأكد ذلك للجالية العربية والمسلمة في ولاية ميشيغين ولعمدة مدينة هامترامك اليمني الأصل عامر غالب الذي شاركه المنصة الانتخابية في لفتة تاريخية، بينما كان الحزب الديمقراطي يقمع أصوات العرب والمسلمين من أعضائه خصوصا من حركة “غير ملتزم”.
ولأن ترمب لا يضمن نتنياهو وليس لديه ما يخسره كونها ولايته الثانية والأخيرة، فقد استمع لنصيحة السيناتور الجمهوري عن ولاية ساوث كارولاينا ليندسي غراهام الذي دعاه في ديسمبر الماضي إلى إصدار بيان بشأن قضية الرهائن في غزة. حينها كتب ترمب منشوره الشهير على منصته تروث سوشال متوعدا بأنه سيكون هناك ثمن باهظ سيدفع في الشرق الأوسط ويتحمله المسؤولون فيه إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن. وبينما فهم كثيرون أن هذا التهديد موجه لحماس ودول عربية إلا أنه أيضا كان موجها لنتنياهو لإرغامه على القبول بصفقة رفضها قبل ثمانية أشهر. فكانت ساعة الصفر لتنفيذ الاتفاق في ١٩ يناير أي عشية تنصيب ترمب وقبل دخوله إلى البيت الأبيض بصفته الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية.