سوريا أولا وأمريكا أولا.. وكل منا قضيته وبلده أولا

في مشهد سوريالي وسط الجبال البيضاء السويسرية ومنتجعات التزلج، يحضر وزير خارجية الإدارة السورية الجديدة أسعد الشيباني ليكون أول من يمثل سوريا في تاريخها في منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس.

ويشاء القدر وترتيبات المنظمين أن يكون رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير هو من يحاور “أبو عائشة” المسؤول السابق في جبهة النصرة أو “حسام الشافعي” المتحدث السابق باسم جبهة فتح الشام أو “زيد العطار” مسؤول العلاقات الخارجية في هيئة تحرير الشام. 

وتسجل صفحات التاريخ الحديث أن بين بلير وما يمثل، وبين أبو عائشة وما يمثل، ما صنع الحداد في مدن العراق من أم القصر جنوبا إلى الموصل شمالا بما في ذلك معتقلات بوكا وأبو غريب وكروبر والمطار وغيرها. 

لكن النظام العالمي الحديث أثبت مرارا أنه لا يعترف إلا بالقوي الذي يستطيع فرض الأمر الواقع، ولديه في نفس الوقت قدرة براغماتية عالية على التكيف مع المتغيرات الجيوسياسية على قاعدة أن السياسة فن الممكن وأن الغاية تبرر الوسيلة. وأولى هذه الغايات هي الحصول على الشرعية باعتراف خصومه به وحتى أشد أعدائه، وإن تطلب هذا الأمر إعادة صياغة الأهداف التكتيكية العملياتية بما لا يغير من الغاية الاستراتيجية المطلقة. 

وقد شهدت السنوات الماضية على نماذج ناجحة مثل حركة طالبان في أفغانستان وكذلك حركة حماس في غزة. فكلتا الحركتان أجبرتا ألد أعدائها على الاعتراف بوجودها كأمر واقع على الأقل والتفاوض معها ولو بطرق غير مباشرة. لكن من النماذج الكارثية كان تنظيم الدولة الإسلامية الذي فشل في الحصول على اعتراف وشرعية لأسباب أولها أنه لا يحظى ببيئة حاضنة وكذلك لم يضع حدودا واضحة لسيطرته. 

وبالعودة إلى دافوس، وكلمة أسعد الشيباني الأكاديمي وخريج المدرسة التركية البراغماتية، وهو الذي تخصص في العلوم السياسية والعلاقات الخارجية في جامعة صباح الدين زعيم باسطنبول. فقد أكد في كلامه مع توني بلير أن “سوريا أولا”، ليبدي بلير إعجابه بهذا الموقف. ثم يكمل الشيباني قائلا إن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب استعار هذا الشعار من السوريين عندما رفع عبارة “أمريكا أولا”، ثم يشدد على أن “سوريا أولا وكذلك سوريا أخيرا للشعب السوري”. 

حظي تصريح الشيباني بإعجاب واسع على مواقع التواصل، وإن تندر البعض من أسرى عقدة النقص أمام الأجنبي على طلاقته بالإنكليزية التي لا تعيبه ولا تقلل من شأنه، خصوصا أنه استطاع إيصال أصوات ملايين السوريين إلى العالم. 

لكن اللافت في عبارة “سوريا أولا” تأكيد القيادة السورية الجديدة أنها تضع الشأن الداخلي نصب عينيها في محاولة للنهوض بالبلاد التي تركها نظام الأسد المخلوع جثة هامدة على جهاز تنفس متهالك. فأن تكون “سوريا أولا” على قاعدة تحقيق المصالح للبلاد وفق منهج ترمب “أمريكا أولا” أو “لنجعل أمريكا عظمى مجددا” فهذا أمر لا يختلف حوله السوريون والعرب، إذ أن سوريا القوية القادرة العادلة الديمقراطية مصدر فخر للسوريين واستقرار للمنطقة.

لكن ما يخشاه البعض أن يكون شعار “سوريا أولا وسوريا أخيرا” قائم على مبدأ الوطنية الانعزالية، وإقرار بالحدود الجامدة التي فرضتها سايكس بيكو، بعيدا عن التفاعل مع العمق العربي وقضاياه وكذلك المحيط الإسلامي وشؤونه، ثم العالم وديناميكيته. 

وفي الحديث عن التجارب، فإن التجربة اللبنانية حاضرة وليست ببعيدة زمنيا ولا جغرافيا. إذ أنه إبان الحرب الأهلية رفع الزعيم الكتائبي ورئيس الجمهورية المغتال بشير الجميل شعار “لبنان أولا”. واتُهم الجميل حينها بالحالة الانعزالية الهادفة إلى إقامة دولة منسلخة عن محيطها العربي وقضاياه وأولها القضية الفلسطينية، خصوصا لما يربطه من علاقات وثيقة مع الإسرائيليين.

وللمفارقة، يعود زعيم تيار المستقبل المسلم السني سعد الحريري ليرفع شعار الجميل المسيحي الماروني نفسه بعد حوالي ثلاثة عقود. إلا أن الحريري لم يتهم بالانعزال لأنه حينها كان لبنان قد انهك بالاغتيالات والتفجيرات والفساد وما خلفه احتلال نظام الأسد على مدى ثلاثين عام. مثلما كان لبنان قد أنهك في الثمانينيات جراء الاجتياح الإسرائيلي الذي احتل بيروت بعد تحويل البلاد إلى قواعد عسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية إذ كان الراحل أبو عمار الحاكم الفعلي للبلاد.

لا يعني شعار “قضيتي أولا” أو “بلدي أولا” بالضرورة تكريسا لحالة انعزالية. فالأولى ترتيب البيت الداخلي لكل منا حتى لا يكون عبئا على جاره، وليتمكن من مد يد العون إليه عند الحاجة دون التدخل في شؤونه والعبث في خصوصياته. ولا يجب النظر بحساسية لمثل هذا الموقف، فكل منا له أولوياته التي تثقل كاهله والتي يعرفها ويعاني منها أكثر من غيره.

أضف تعليق