تقضي النسخة العربية من اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية خلال فترة لا تتجاوز ٦٠ يوما تنتهي في ٢٦ يناير ٢٠٢٥.
لكن الأمر المفاجئ والمتوقع في الآن نفسه أن إسرائيل، وبدعم كامل من إدارة دونالد ترمب، قررت تمديد فترة بقائها داخل لبنان بشكل رسمي.

وهناك ٣ ذرائع رئيسية على الأقل في الموقف الإسرائيلي الذي عبرت عنه حكومة بنيامين نتنياهو.
الذريعة الأولى، أن الجانب اللبناني لم يلتزم بالاتفاق الذي يقضي بانسحاب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في تلك المناطق. أما الذريعة الثانية، فهي أن إسرائيل لم تنته بعد من تفكيك بنية حزب الله العسكرية التي تهدد عودة سكان الشمال. في حين أن الذريعة الثالثة تقول إن البند الذي يقضي بانسحاب تدريجي للجيش الإسرائيلي خلال ٦٠ يوما تمت صياغته بناء على فهم بأن عملية الانسحاب قد تستغرق أكثر من ٦٠ يوما.
والذريعة الثالثة تعود بنا إلى عقود حين صدر القرار الدولي ٢٤٢ الذي يقضي بانسحاب إسرائيل من “الأراضي المحتلة” عام ١٩٦٧ لكن إسرائيل فهمت القرار على أنه من “أراض محتلة”. وبما أن الفهم الإسرائيلي للقرار يفتح الباب على أكثر من ٦٠ يوما، فإن الانسحاب الكامل غير مضمون خصوصا أن نتنياهو يريد قبض ثمن موافقته على طلب ترمب وقف إطلاق النار في غزة من خلال تعويض ذلك في الضفة الغربية وجنوبي لبنان وسوريا.
ومع عدم التزام إسرائيل بالعودة إلى ما يعرف بالخط الأزرق الذي رسم الحدود الدولية مؤقتا بعد الانسحاب عام ٢٠٠٠، فإن لبنان يعود رسميا إلى مفاعيل القرار الدولي ٤٢٥ عام ١٩٧٨ القاضي بانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي اللبنانية، ولم يطبق إلا بعد ٢٢ عاما!
وفي ظل الاتهام الإسرائيلي للبنان بعدم تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في ٢٧ نوفمبر بوساطة أمريكية، إضافة إلى عجزه عن تطبيق القرارات الدولية ١٥٥٩ و١٦٨٠ و١٧٠١ لا سيما لجهة نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة، فإن إسرائيل اليوم ستتمسك بذريعة وجودها داخل لبنان بعد الضربات الجسيمة التي كسرت ظهر حزب الله.
منذ التوغل الإسرائيلي في جنوب لبنان مطلع أكتوبر ٢٠٢٤، عملت القوات الإسرائيلية على نسف قرى بكاملها بما يشير إلى نية مبيتة تمنع عودة النازحين من السكان أو تؤخر عودتهم لأطول فترة ممكنة لصالح بقاء القوات الإسرائيلية.
وبينما تقول إسرائيل إنها تهدف لحماية سكان الجليل، إلا أنها انسحبت تقريبا من معظم القطاع الغربي، وأعادت تموضعها في القطاع الأوسط. أما القطاع الشرقي لا سيما مثلث الحدود اللبنانية السورية الإسرائيلية فإن حكومة نتنياهو تنظر بعين استراتيجية لأهمية هذه المنطقة الجبلية الكاشفة لأصبع الجليل والعمق السوري حتى دمشق وكذلك البقاع اللبناني.
وقد عززت القوات الإسرائيلية بعد سقوط نظام الأسد وجودها على هذا المحور بالسيطرة على قمة جبل حرمون والتوغل بعد خط وقف إطلاق النار ١٩٧٤ داخل الأراضي السورية لتصبح على بعد ٢٠ كلم من دمشق.
في الداخل اللبناني، يحمل حزب الله السلطة السياسية المسؤولية ويطالبها بالضغط على الدول الراعية للاتفاق بما يضمن تنفيذ الانسحاب الإسرائيلي. ويبدو هنا أن حزب الله يستمر في منهج المكابرة والتلاعب بالعقول “Gaslighting”، مفترضا أن اللبنانيين تناسوا من الذي فتح جبهة لم تسند غزة ولم تحم لبنان وخلفت آلاف الضحايا وجلبت الخراب والدمار وقضت على معظم البنية العسكرية لحزب الله بما في ذلك أرفع قادته، بشكل لم تعد إسرائيل ترى فيه خطرا حتى على جنودها في جنوبي لبنان.
وإذ يحاول حزب الله الترويج في الداخل اللبناني على أن تطبيق القرار ١٧٠١ ينحصر جنوبي نهر الليطاني، إلا أن نص القرار واضح وصريح ويشمل جميع الأراضي اللبنانية، وهو مبدأ تضمنه خطاب القسم للرئيس جوزيف عون وخطاب التكليف لرئيس الحكومة نواف سلام.
لا يزال حزب الله يتعامل في السياسية كما في الحرب وفق معطيات عام ٢٠٠٦ حين استطاع فرض شروطه على الإسرائيليين، لكن اليوم الأمر مختلف تماما، فهو لم يجرؤ على المطالبة بمقاتليه الذين أسروا في الحرب الأخيرة. كما أنه قبل باتفاق وقف إطلاق النار فيه من الغموض ما يكفي ليسمح لإسرائيل باستمرار ضرباتها على أهداف مختلفة للحزب دون أي رد أو ربما قدرة على الرد نظرا لما ستجلبه هذه الخطوة من عودة الغارات الإسرائيلية التدميرية وسط انقسام سياسي وشعبي لبناني حاد.
على الجانب الآخر، يتابع العالم بأسره كيف استطاعت حركة حماس الصمود في غزة لصياغة اتفاق وقف إطلاق نار واضح بمراحله الثلاثة وببنوده وتفاصيله لجهة مناطق الانسحاب وعدد الأسرى المفرج عنهم في كل مرحلة إضافة إلى عدد شاحنات الإغاثة وعودة النازحين إلى الشمال. فبينما كان الغزيون يعيشون لحظات من الفخر والانتصار، كان اللبنانيون يتساءلون عما إذا كانوا قد وقعوا ضحية وثيقة استسلام.