الغزازوة لترمب: غزة ليست ناديا للغولف! 

استفزت دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن صناع القرار في المنطقة، وقبلهم أهل الأرض وأولياء الدم.  

فقد أبدى ترمب رغبته بأن تتولى الأردن ومصر استقبال مليون ونصف المليون من أهل غزة بشكل مؤقت أو طويل الأمد بعد بناء مساكن لهم للعيش بسلام، متذرعا بأنه يجب تنظيف غزة بالكامل لأنها موقع هدم حرفيا حيث يموت الناس هناك. 

ولما اقتصر الرد عليه بتصريح لوزير الخارجية الأردني وبيان متأخر عن الخارجية المصرية وموقف من هنا وآخر من هناك سواء دفاعا عن الحق الفلسطيني أو خشية على مصير تلك الأنظمة السياسية، كان الرد الحقيقي والعملي والواقعي والمعبر في أقل من ٢٤ ساعة هو عبور آلاف الغزازوة من جنوب ووسط القطاع إلى شماله كنهر هادر ينبع من كل شبر في القطاع ويصب في كل شبر فيه.

إذ خلال ١٥ شهرا من القصف الكثيف والتدمير الممنهج والمجازر وسفك دماء ٥٠ ألف إنسان، لم يهجر الفلسطينيون أرضهم وتنقلوا تحت نير التهديد بالموت قصفا وتجويعا ومرضا بين بؤس مراكز الإيواء، وتحملوا صقيع المخيمات. 

لا يعني أن الغزازوة لا يمتلكون غريزة البقاء التي تدفعهم للنجاة بأرواحهم، بل أن هناك نسبة منهم غادرت لظروفها الخاصة. لكن غالبية الغزازوة أبناؤهم يقاتلون من تحت الأرض وفوقها، عدا عن كونهم لاجئين أصلا داخل ما تبقى من بلدهم ولن يقبلوا بتغريبة أخرى  بعد النكبة. 

لقد أسقط النهر الهادر من النازحين العائدين على الأنقاض خطة الجنرالات القاضية باحتلال شمال غزة والاستيطان فيه وتقسيمه. كما أسكتت احتفالات الغزازوة في اليوم التالي للحرب والتفافهم حول أبنائهم المقاتلين كل تهديدات تيار أقصى اليمين من بتسلئيل سموتريتش إلى إيتمار بن غفير الذين رحبوا وهللوا لفكرة ترمب. 

لقد فات الرئيس الأمريكي أو ربما مستشاريه أن يشرحوا له ما معنى أهل الأرض وأن غزة الاستراتيجية الموقع وذات الإطلالة البحرية والمناخ المتنوع، كما وصفها ترمب، ليست فرصة للتطوير العقاري وبناء الأبراج والمنتجعات وأندية الغولف. فهذه الأرض رويت بدماء أصحابها وصانها جيل يخلف آخر يتوارثون الحجارة فالمولوتوف والبنادق والآن الصواريخ والمسيرات، والله وقادتهم وحدهم أعلم بالتركة التي سيرثها الجيل القادم. 

والقصور في فهم معنى “أهل الأرض” ينسحب أيضا على مشهد عودة اللبنانيين إلى قراهم في جنوبي لبنان بعد انتهاء مهلة الستين يوما، وتصديهم بصدورهم العارية لآلة القتل الإسرائيلية رغم الثمن الباهظ بسقوط قتلى وجرحى، في ظل مكابرة حزب الله ومحاولته التملص من تنفيذ القرارات الدولية لا سيما ١٧٠١ وبنود اتفاق وقف إطلاق النار الأخير.

كما أن هذا القصور في إدراك “أهل الأرض” يشمل عودة السوريين إلى مدنهم وبلداتهم التي هجروا منها بعد سقوط نظام الأسد وتفكك وحدة الساحات بمليشياتها الطائفية الاحتلالية والإحلالية بهدف التغيير الديموغرافي والتلاعب بالنسيج السكاني للسوريين.

على أية حال، لا يبدو أن فكرة ترمب آتية من العبث بل على العكس تماما فإن لها جذورا واضحة في سياسته كان قد عبر عنها كبير مستشاريه السابق وصهره جاريد كوشنر خلال مقابلة مع جامعة هارفرد في ١٥ فبراير ٢٠٢٤ عندما أشاد بـ “القيمة الكبيرة” المحتملة للعقارات الساحلية في غزة، واقترح أن على إسرائيل إجلاء المدنيين بينما تقوم “بتنظيف” القطاع. وتابع كوشنر إنه يعتقد أن على إسرائيل نقل المدنيين من غزة إلى صحراء النقب، وإخراج المدنيين من رفح ونقلهم إلى مصر.

وأمام استغراب المحاور من جرأة وصراحة كوشنر، واصل صهر ترمب تشخيصه للمسألة بالقول إن “غزة لم تكن حقا قائمة على سابقة تاريخية. لقد كانت نتيجة حرب. كانت هناك قبائل في أماكن مختلفة، ثم أصبحت غزة كيانا. كانت مصر تديرها، ومع مرور الوقت جاءت حكومات مختلفة لإدارتها”. وردا على سؤال حول ما إذا كان ينبغي للفلسطينيين أن يكون لهم دولتهم الخاصة، وصف كوشنر هذا الاقتراح بأنه “فكرة سيئة للغاية” واعتبر أنه “سيكون بمثابة مكافأة لعمل إرهابي”.

وكان ترمب قد ألمح إلى أنه يفكر في طريقة لمنح إسرائيل مزيد من الأراضي كونها بقعة صغيرة جدا على الخريطة، وذلك خلال تجمع انتخابي للناخبين اليهود في أغسطس الماضي بولاية نيو جيرسي.

يعلم المتابعون لقصة صعود ترمب تكتيكاته وأشهرها أنه إذا أراد شيئا غريبا نوعا ما، يعبر عنه بطريقة غير مباشرة كالإدلاء بطرفة سخيفة أو تحويله إلى نكتة سمجة يستهلكها الإعلام وتلوكها ألسن الناس حتى تصبح لاحقا مقبولة لديهم وواقعا. وما الحديث اليوم عن فكرة ضم كندا أو السيطرة على غرينلاند أو تغيير اسم خليج المكسيك أو حتى احتلال قناة بنما إلا أفكار جنونية يؤسس ترمب لترسيخها في الأذهان لتصبح لاحقا حقيقة وواقعا.

أضف تعليق