وسط تكشير الصين عن أنيابها “الناعمة” بوجه الولايات المتحدة، نفث التنين لهيبه ليحرق ٦٠٠ مليار دولار من القيمة السوقية لعملاقة المعالجات الحوسبية Nvidia في جلسة تداول واحدة ببورصة الناسداك.
ولم يكن هذا اللهيب سوى الكشف عن التطبيق الصيني لمحادثة الذكاء الاصطناعي DeepSeek الذي سرعان ما تصدر قوائم الأعلى تحميلا على أجهزة الأمريكيين متفوقا على التطبيقات الأمريكية لا سيما ChatGPT في عدد مرات التحميل ومنافسا حتى بالقدرات، عدا عن تميزه بأنه مفتوح المصدر.

ولما كانت الولايات المتحدة تبحث في كيفية احتواء الندوب التي سببها تطبيق تيك توك وتسلله إلى بيانات ١٧٠ مليون مستخدم أمريكي، جاء الكشف عن النموذج R1 من تطبيق DeepSeek ليقلب الطاولة رأسا على عقب بعد الكشف أن تكلفة تدريبه لم تتجاوز ٦ مليون دولار مقابل مليارات الدولارات رصدتها التطبيقات الأمريكية في شركات مثل OpenAi وMeta. ولا تتعلق التكلفة بعدد المعالجات الباهظة الثمن والمستخدمة في التدريب فحسب، بل أيضا بعدد موظفي التطبيق الصيني الذين يقدرون بنحو ٢٠٠ مقابل ٤٥٠٠ في OpenAi.
هذا الكشف المذهل جاء بعد أيام معدودة من إعلان الرئيس دونالد ترمب عن رصد ٥٠٠ مليار دولار لمشروع Stargate لتطوير الذكاء الاصطناعي وإلى جانبه الرؤساء التنفيذيين لشركات OpenAi وOracle الأمريكيتين وSoftbank اليابانية.
وبعد أن استشرست الولايات المتحدة لحماية بنيتها التحتية وبنية حلفائها لشبكات الجيل الخامس من شركة هواوي، وكذلك التضييق على عملاقة صناعة المسيرات DJI، ومحاولات التصدي لشركات البيع بالتجزئة عبر الإنترنت مثل Temu وSheIN، وكذلك الإنتاج الضخم من السيارات الصينية، فإنها اليوم تتلقى صفعة كبيرة، وصفها أحد كبار رواد الاستثمار الجريء والبرمجيات مارك أندرسن بأنها “أشبه بلحظة سبوتنيك” في إشارة إلى أول قمر صناعي يطلق إلى الفضاء في ٤ أكتوبر ١٩٥٧ على أيدي الاتحاد السوفياتي.
هذا الذهول والإعجاب في الولايات المتحدة بقدرات التطبيق الصيني، والذي أقر فيه الرئيس التنفيذي لـOpenAi سام ألتمان وكذلك متحدث باسم Nvidia، مرده بالدرجة الأولى إلى فشل كل سياسات حظر التصدير الأمريكية لأشباه الموصلات والرقائق الحوسبية إلى الصين. فالمحللون التقنيون يعتقدون بأن الشركة الصينية استطاعت الاستحواذ على ٥٠ ألف شريحة معالج H100 من Nvidia على أقل تقدير، بعد أن كشف الرئيس التنفيذي لـDeepSeek ليانغ وينفنيغ استخدامهم ٢٠٠٠ شريحة فقط في تطوير نموذجهم. ووسط الفشل في إيجاد تفسير مقنع، بدأت الاتهامات للشركة الصينية بالحصول بطريقة على شرعية على بيانات من OpenAi لاستخدامها في تطوير نموذجها.
لكن الأمر أعمق من ذلك إذ يعود إلى العام ٢٠١٧ عندما أعلنت الصين عن إطلاقها وكالة حكومية للابتكار والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي انطلاقا من عقدتها التاريخية بأنها تخلفت عن اللحاق بالثورة الصناعية وعاشت قرونا من الإهانة، كما يقول يوفال نواه هراري في كتابه الأخير Nexus.
فالصين ترى أنها لن تستطيع المنافسة في السيطرة على الأراضي والمستعمرات بعد الآن إلا من خلال مفهوم احتلال الداتا أو البيانات للحكومات والشركات والأفراد لتصبح على اطلاع وقدرة في التحكم بكل شاردة وواردة دون إرسال أي جندي.
ومع إعلان شركة علي بابا الصينية عن إطلاق نموذجها Qwen 2.5 من الذكاء الاصطناعي الذي يوصف بأنه يتفوق على DeepSeek، فإنه يصح القول إن المنافسة لم تعد صينية أمريكية بقدر ما هي ما بين المدن الصينية الكبرى مثل شانغهاي وغواندونغ وهانغتشو وجيجانغ وبيجين.
يبدو أننا أصبحنا في خضم ظاهرة استعمار الداتا التي تقوم بها الإمبراطوريات الحديثة، وهي أشبه باستعمار المواد الأولية للدول الفقيرة التي لن تحصل كالعادة على أي عائد. لكن الأخطر هنا أن كل امبراطورية لديها أدواتها التي تقدم تفسيرات وإجابات مختلفة ومتناقضة. فقد جرى توجيه أسئلة عدة إلى تطبيق DeepSeek تتعلق بموقف الصين من تايوان أو بشأن الانتهاكات الحقوقية للمسلمين الأيغور، أو لماذا يقارن الرئيس الصيني بـ”ويني الدبدوب”، لكن التطبيق قدم وجهة النظر الحكومية الصينية أو دعا المستخدم للبحث عن شيء آخر.
هكذا ستصبح كل إمبراطورية تعيش في شرنقة، كما يقول هراري، يفصل بينها ستار السيليكون بعد أن كان ستارا حديديا إبان الحرب الباردة وسط تحذيرات من أن الحرب السيبرانية أكثر خطورة من الحرب النووية التي يمكن التنبؤ بحجم أضرارها، خلافا للحروب المعلوماتية لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي حيث تقوم الآلة بمعالجة البيانات الضخمة Big Data والتعلم الآلي وإصدار القرارات بشكل ذاتي دون العودة إلى العامل البشري المشغل أو قدرته على التحكم، مثل الذي أحضر العفريت ولا يستطيع أن يصرفه.