يشاء القدر لنا أن نشهد على منعطف تاريخي في منطقتنا المسماة الشرق الأوسط، وأبرز ملامحه تصفية القضية الفلسطينية مع خطط الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المثيرة لريبتنا نحن، وكذلك لدهشة نتنياهو، لا سيما دعوته للتطهير العرقي للفلسطينيين من خلال تهجير سكان غزة وقبوله باستيلاء إسرائيل على أراض في الضفة، وبالتالي تراجعه عن تعهد ولايته الأولى بدعم قيام دولة فلسطينية.
ويشاء القدر ذاته أن نلمس ثمرة توافق عربي تركي في استرجاع سوريا إلى عمقها بعد سنوات من خلافات أطالت من مدة عذابات السوريين وحمام الدم. وتشاء الحمية فينا أن نسأل ما الذي يمنع من تحول هذا التوافق إلى تحالف جيوسياسي تقوده السعودية ويمتد تأثيره إلى قيام دولة فلسطينية على حدود 1967، انطلاقا من مبادرة السلام السعودية 1981 بقيادة ولي العهد حينها الأمير فهد بن عبد العزيز، أو المبادرة العربية للسلام 2022 التي صاغها وقتها ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز.

بين الفرس والروم وامتداداتهم التاريخية إلى توحد العرب تحت راية الإسلام قبل أن يدار بلاطهم من قبل وزرائهم الفرس والترك، كانت هذه المنطقة يتجاذبها مثلث من القوى انعكس قديما في الصفويين والعثمانيين والصليبيين، وحديثا لا سيما بعد الحرب العالمية الأولى ووعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو بإسرائيل وكيلة البريطانيين ثم الأمريكيين، وإيران الشاهنشاهية فالجمهورية الإسلامية، والتركة العثمانية من إمارات وممالك عربية مثل السعودية وتلك التي تحولت لاحقا إلى جمهوريات عسكرية في مصر وسوريا والعراق وليبيا، وغرقت في صراعات داخلية دموية، وأخرى في ما بينها وسط منافسة محمومة لقيادة المنطقة وانقسام حاد بين القطبيتين السوفيتية والأمريكية.
في حين كان الركن التركي منكفئ على نفسه بعد هزيمته في الحرب منشغلا في الحفاظ على ما تبقى من ميراث السلطنة العثمانية وتثبيت دعائم حكم الجمهورية في ظل انقلابات لا تتوقف حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002.
ولاحظنا كيف أن إيران الخمينية، وفق منهجية تصدير الثورة باسم “طريق القدس” ودعم فصائل المقاومة، سعت لملء الفراغ الذي خلفته مصر الناصرية بتوقيع السادات على اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، في ظل انغماس جمهوريات الخوف الأسدية والصدامية والقذافية في إثارة خلافات وفتح جبهات عبثية داخل المنطقة وقمع مواطنيها ونهب خيرات بلادهم.
وبعد الضربات المتلاحقة التي تعرض لها ركن إيران وأدواته، وبالاستفادة من الحضور التركي القوي في العمق الاستراتيجي وقدراته الناعمة والخشنة، إضافة إلى مكانة السعودية وما تمثل عربيا وإسلاميا في ظل طموحات ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان، قد تكون الفرصة التاريخية مؤاتية الآن أمام المملكة لقيادة هذا الركن، والتصدي لأطماع الركن الإسرائيلي بتصفية القضية الفلسطينية.
لقد جمح ترمب، عبر صفقة القرن، بالقفز على محاولات أسلافه ريغان وشرق أوسطه الجديد في 1981، وبوش الأب ومؤتمر مدريد في 1991، وكلينتون في كامب ديفيد 2000 والحل النهائي، وبوش الإبن وخريطة طريقه. فاتفاقيات أبراهام قدمت لإسرائيل تطبيعا بالمجان وشكلت أول خرق للمسار العربي الموحد بعد الانفراد بمصر والأردن، لكنها اصطدمت بجدار الثوابت السعودية.
إذ أن الأمير محمد بن سلمان يركن إلى إرث طويل من الحراك الديبلوماسي السعودي العلني وفي الكواليس، يرتكز إلى مبادئ لا تراجع عنها تقضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس. وهذا الإرث عكسته المبادرة السعودية عام 1981 وعرضها ولي العهد حينها الأمير فهد، ثم المبادرة العربية للسلام في القمة العربية في بيروت 2002 والتي صاغها ولي العهد وقتها الأمير عبد الله.
ورغم أن هذه المبادرات قوبلت برفض إسرائيلي من بيغن إلى نتنياهو، وكذلك أفخاخ نصبتها أنظمة وقوى عربية بقرار غالبا من طهران، إلا أنها بقيت الأساس الذي عاد المخالفون وتبنوه بعد سنوات.
تزداد التحديات على الأمير الشاب، حامل أمانة أسلافه، ويثقل سيد البيت الأبيض كاهله بشروط جنونية ومطالب ذات سقف عال لتحقيق أفضل المكاسب في صفقة يريد للعرب أن يخرجوا خاسرين بتصفية القضية الفلسطينية لأن التطبيع المجاني لم يعد كافيا.
يستطيع الأمير أن يتسلح بموقف عربي رسمي وشعبي لما تملكه المملكة من تأثير سياسي وديني، ولما يحظى به من علاقات شخصية خصوصا مع زعماء الخليج، لا سيما قطر والكويت وعمان، كونها لم توقع على اتفاقيات أبراهام. ومن جهة ثانية، فإن العلاقة مع تركيا تسير على ما يرام، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ويمكن اعتبار التفاهم بشأن الوضع في سوريا نموذجا يصلح لبناء أرضية مشتركة بشأن بقية الملفات ذات البعد الإقليمي والإسلامي. إذ أن لتركيا، عضو حلف الأطلسي، ثقلها الجيوسياسي وكذلك التاريخي ولا يمكن الاستعاضة عنه بدولة إسلامية أخرى.