في ظل كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن خططه بشأن فلسطين وتعيينه فريقا من صقور اليمين الداعمين لإسرائيل، يراودني سؤال عما إذا كان الناخبون الأمريكيون، العرب والمسلمون تحديدا، قد ندموا بشأن موقفهم في الانتخابات الأمريكية. فقد تفرق جمعهم وساهموا في خسارة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، خصوصا في ولاية ميشيغن المتأرجحة.
وخلال تغطيتي للانتخابات الرئاسية الأمريكية وجولتي في عدد من الولايات، سبتمبر ونوفمبر الماضيين، لاحظت أن موقف الناخبين العرب والمسلمين انقسم على 4 فئات:
الأولى، الذين صوتوا لهاريس رغم موقف إدارة جو بايدن السيء من الحرب على غزة إيمانا منهم بأن رئيسا ديمقراطيا من المنظومة أفضل من جمهوري مثل ترمب لا يمكن توقعه ويحترف الابتزاز.
الثانية، الذين قاطعوا الانتخابات وبينهم ديمقراطيون حزبيون مثل “حركة غير ملتزم” التي رفضت التصويت لهاريس عقابا للديمقراطيين.
الثالثة، الذين وجدوا خيارا ثالثا عبر دعم زعيمة حزب الخضر جيل شتاين رغم أنها يهودية لكنها على مذهب بيرني ساندرز.
الرابعة، الذين استقطبهم ترمب بتعهده لهم وقف الحرب مثل مجموعة “العرب الأمريكيون من أجل ترمب” بقيادة بشارة بحبح والتي غيرت اسمها إلى “العرب الأمريكيون من أجل السلام” عقب تصريحاته بشأن غزة، وكذلك عمدة مدينة هامترامك في ميشيغن اليمني الأصل عامر غالب.

وأثناء حضوري للمؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي أغسطس الماضي في شيكاغو، أتاحت لي الفرصة زيارة مدينة “بريدج فيو” المعروفة بـ”فلسطين الصغيرة” حيث خضنا نقاشات مع أبناء الجالية الفلسطينية. وقد عبروا عن استيائهم الكامل من إدارة بايدن وحملوها مسؤولية المجزرة حرفيا في قطاع غزة من خلال فتح مخازن الأسلحة لإسرائيل وتقديم الدعم السياسي الكامل، إضافة إلى قمع الحراك المناهض لإسرائيل في الجامعات الأمريكية. وشهدت شيكاغو حينها مظاهرات عدة للضغط على سياسات الديمقراطيين. لكن قادة الحزب الديمقراطي لم يكتفوا بمنع الأعضاء من أبناء الجالية الفلسطينية من اعتلاء منصة المؤتمر، بل أتاحوا الفرصة لعائلات الرهائن الإسرائيليين. كما رفضوا أن يتضمن المؤتمر موقفا واضحا يدين الحرب الإسرائيلية على غزة.
وعند سؤالي لقادة الجالية العربية هناك عن تداعيات موقفهم بمقاطعة الانتخابات أو التصويت لمرشحة حزب الخضر وبالتالي فوز ترمب، ردوا بأنهم ليسوا هم من وضعوا أنفسهم في هذا الموقف وإنما إدارة بايدن وعليها تحمل مسؤولياتها.
اللافت هنا أنه تزامنا مع المؤتمر كان ترمب يكثف حملته الانتخابية في مناطق الجاليات العربية والمسلمة، فقد استطاع عبر استراتيجيتين استقطاب أصوات واسعة منهم.
الأولى، التعهد بوقف الحرب في غزة دون أن يكشف عن خططه لليوم التالي. والثانية، دعم القيم الاجتماعية المحافظة وتحسين الأوضاع الاقتصادية. وهذا الأمر لمسته عند لقائي بعائلة أمريكية فلسطينية تعيش في بلدة نوغالس في أريزونا على حدود المكسيك عندما أسروا لي أنهم سيصوتون لترمب لأن الحزبين أسوأ من بعضهما بشأن فلسطين.
وقبيل دخوله البيت الأبيض، كشف ترمب عن فريق من الصقور الداعمين لإسرائيل مما عزز من مشاعر إحباط ناخبيه العرب والمسلمين، وأبرزهم:
وزير الدفاع بيت هيغسيث الصليبي الهوى.
وزير الخارجية ماركو روبيو الداعم لتصفية حماس.
سفير أمريكا في إسرائيل مايك هاكابي الذي يسمي الضفة “يهودا والسامرة”.
مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة إليز ستفيانيك التي تصدرت مواجهة حراك الجامعات.
مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، قطب العقارات اليهودي والمتبرع السخي لحملته. ونائبته مورغان أورتاغوس التي تحولت دينيا إلى اليهودية.
مستشاره لشؤون الهجرة ستيفن ميلر، يهودي ومتشدد حيال المهاجرين.
مستشار الأمن القومي مايك والتز، المناصر لحكومة بنيامين نتنياهو.
لكن طالما أن ترمب يريد أن تكون ولايته الثانية والأخيرة خالية من الحروب، فلماذا يجلب حوله هذا الفريق المثير للسخط ويتخذ مواقف مؤيدة لنتنياهو رغم علاقته الشخصية السيئة معه؟
برأيي، أن ترمب يريد تحصين نفسه في حربه ضد الدولة العميقة المتمثلة بالمؤسسات التقليدية المسيطرة على مراكز صنع القرار، لا سيما الوكالات الفدرالية التي حاربته خلال ولايته الأولى ولاحقا القضايا المرفوعة ضده. ولأن هذه الدولة العميقة متجذرة حتى النخاع في كل مفاصل البلاد، كان لا بد من وجود ظهير قوي يتمثل بمجموعات الضغط البروتستانية الإنجيلية، المعروفة بالصهيونية المسيحية، ولجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “آيباك” ورجال أعمال يهود مولوا حملته.
ومن جهة ثانية، عزز ترمب حضوره الشعبي بإصدار سلسلة قرارات تنفيذية تتماهى مع مطالب الجمهوريين المحافظين، مثل التشدد في سياسات الهجرة والترحيل، وفرض تعرفات جمركية لحماية الإنتاج المحلي، ودعم القيم الاجتماعية المحافظة.
يرتكز أسلوب ترمب في السياسية كما في العقارات على “فن الصفقة”، عنوان كتابه الشهير. ويتلخص برفع سقف شروطه حد الجنون لإرغام الطرف الآخر على التنازل عن مطالبه. وينعكس ذلك الآن جليا على القضية الفلسطينية، حيث أننا أمام مرحلة صارت فيها حدود 1967 من الماضي، بعد اعترافه بضم إسرائيل للجولان ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس اعترافا بها عاصمة لإسرائيل، والآن المطالبة بتهجير أهل غزة، وتأييده حكومة نتنياهو بضم مناطق في الضفة.
أعتقد أن ترمب لم يعد يكتفي بتطبيع عربي إسرائيل بالمجان مثل اتفاقيات أبراهام، بعد أن كنا نطالب بالأرض مقابل السلام. إذ يبدو جليا أن أي تطبيع مقبل سيكون بمقابل من الدول العربية، عبر تنازلات سياسية وتمويل مشاريعه وسياساته الاقتصادية وربما الشخصية، هو وصهره جاريد كوشنر، وصولا ربما إلى إيلون ماسك.
نحن أمام 4 سنوات عجاف لم يمض منها 100 يوم حتى الآن، والآتي أعظم!