بصمة قطر في قضية قيصر.. الطريق إلى محاكمة الأسد ورفع العقوبات

خلال إماطة قيصر اللثام عن هويته في مقابلته مع الجزيرة والتعريف بنفسه أنه المساعد أول في الشرطة العسكرية السورية فريد ندى المذهان، شدني كشفه في سياق الحوار عما كان يشار إليه بشأن دور قطر في هذه القضية. إذ أنه خلال التقارير الحقوقية وحتى تلك الاستقصائية كنا نقرأ تلميحات إلى دولة إقليمية يستنتج أحيانا أنها قطر دون الغوص في التفاصيل أو تقديم ما يسند هذا الأمر.

فقد قال المذهان، في المقابلة الحصرية مع الجزيرة، إنه انشق عن نظام الأسد في 2013 وجرى تنسيق هروبه إلى الأردن ثم إلى العاصمة القطرية في مشهد يعيدنا بالذاكرة تماما إلى انشقاق ومسار هروب رئيس الوزراء السابق رياض حجاب عام 2012 المقيم في الدوحة منذ ذلك الحين. ويؤكد المذهان أن قطر كلفت مكتب المحاماة البريطاني المرموق “كارتر رك” إعداد الملف والتحقق من الصور تحت إشراف 3 مدعين عامين دوليين سابقين. ويتحفظ قيصر سوريا عن سبر أعماق القضية، تاركا ربما للتاريخ أو لأصحاب القرار الزمان المناسب للكشف عنها وتوثيقها وتكريم أبطالها المجهولين.

وحالي حال كثير من الصحفيين الذين واكبوا تغطية الثورة السورية وانغمسوا في أدق تفاصيلها منذ اندلاعها في مارس 2011، ولفتهم ثبات موقف قطر في دعمها حتى ما بعد هروب بشار الأسد في ديسمبر 2024. وأثار فيني ذلك حشرية الصحفي وقريحة الباحث في ملاحظة الصملة القطرية بمواجهة كل الإخفاقات السياسية والعسكرية الميدانية وحتى الإقليمية الدولية في إعادة تدوير بشار الأسد ونظامه وتقديمه مجددا للجامعة العربية والمجتمع الدولي، أو الانفتاح الرئاسي التركي على اللقاء به.

اطلعت على كثير من تحليلات تغمز من عين مصالح قطر الاستراتيجية في مد خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر سوريا وتركيا إلى أوروبا، لكن بناء على ألف باء الاستثمار من خلال حساب نسبة المخاطرة مقابل العائد وعدم وضع حد للخسارة، فإن استمرار نظام الأسد في السلطة دون أفق لأكثر من 13 سنة بدعم روسي إيراني وغطاء إقليمي دولي من خلال مسار أستانا مع تركيا، وكذلك تعويمه عربيا، كانت تؤكد أن الصفقة خاسرة ومقامرة غير محسوبة ليس في الاستثمار فحسب وإنما في السياسة. فقد تعرضت الدوحة بفعل موقفها الراسخ من ثورات الربيع العربي لا سيما سوريا لضغوط إقليمية ودولية بلغت حد حصارها وتشويه سمعتها دوليا واتهامها بدعم وتمويل الإرهاب.

لكن من خلال معايشتي للمجتمع القطري لاحظت أن للقطريين هوى شامي فهم يعرفون بلودان والزبداني والفيجة وحارات دمشق وأبوابها وأسواق حلب عن ظهر قلب. واكتشفت أيضا أن الشام لم تكن وجهة لإجازاتهم فحسب بل كانت تربطهم بها علاقات نسب مع عائلات سورية، حتى أن هناك شخصيات رفيعة جدا تسري في شرايينها دماء من أرض الشام.

كما أن أهل قطر ما زالوا على نهج أجدادهم في نجدة الملهوف وإكرام الضيف والفزعة للمظلوم ودفعوا أثمانا باهظة مقابل ذلك، إذ أنهم يفاخرون بأن قطر لقبها كعبة المضيوم، فكيف لو كان هذا المضيوم قريبهم وابن دينهم. 

لم تستوحش قطر طريق الحق لقلة سالكيه وأغدقت السوريين بدعم غير محدود ظهرت ملامحه في 6 وجوه:

الأول، إنساني غير منقطع تجاوزت قيمته ملياري دولار حتى 2021 فقط، من خلال مؤسسات إغاثية مثل قطر الخيرية والهلال الأحمر القطري الذي وثق استفادة 13 مليون سوري من مشاريعه حتى 2024.

الثاني، دبلوماسي بدأ مبكرا في محاولة منع إراقة الدماء من خلال التفاهم مع الأسد في 2011، ثم الجهد الملحوظ في الجامعة العربية بإطلاق مبادرتي أغسطس 2011 ويناير 2012 مرورا بتعليق عضوية سوريا وإغلاق السفارات العربية. ودوليا، حملت قطر صوت السوريين إلى المحافل الدولية بدعم بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن الدولي 2254.

الثالث، سياسي في تعزيز دور المعارضة السورية من خلال المساعدة في لم شملها عبر احتضان اجتماعهم في الدوحة في نوفمبر 2011 الذي أسفر عن تأسيس الائتلاف الوطني، ثم الاعتراف به وبسفارة له كممثل شرعي للسوريين في 2013، وتسلميه لاحقا مقعد سوريا في الجامعة العربية.

الرابع، إعلامي في توثيق فظائع النظام وانتهاكاته الجسيمة ومجازره، وتسليط الضوء على معاناة السوريين في الداخل ودول اللجوء، كان ثمنه باهظا أيضا بسقوط صحفيين ضحايا، إما قتلى أو مصابين أو أسرى.

الخامس، لوجستي للمساعدة في توحيد فصائل المعارضة المسلحة ضمن الجيش السوري الحر والجيش الوطني السوري في مواجهة آلة الموت الأسدية.

السادس، حقوقي في توثيق وفضح فظائع النظام والذي تجلى بما كشفه قيصر. 

لذا لم يكن غريبا أن تكون أول طائرة تحط في مطار دمشق تابعة للخطوط الجوية القطرية، وأن يكون أول وفد رسمي عربي يلتقي بالإدارة السورية الجديدة قطري بقيادة الوزير محمد الخليفي، ثم أول زعيم عربي يطل من قصر الشعب وجبل قاسيون أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وينسب للشيخ تميم قوله في 2013 إن قطر ستبقى مع الثورة السورية ولو استمرت 20 عاما، وذلك خلال لقائه بمعارضين سوريين بينهم برهان غليون وجورج صبرا والراحل ميشال كيلو.

وبرأيي أن الجهد القطري ينبغي أن يكتمل من خلال مسارين حتى لا يذهب سدى أو أن يكون منقوصا:

الأول، استكمال توثيق ملف قيصر بعد سقوط النظام بمزيد من الوثائق والشهادات وتعزيز الملف لإنشاء محكمة دولية خاصة من أجل سوريا، من خلال اتفاقية بين الحكومة السورية الجديدة والأمم المتحدة، يحاكم فيها الأسد وأركان نظامه عبر إصدار طلبات تسليم دولية، وذلك انتقاما لأهالي الضحايا والمفقودين وعدم إفلات القتلة من العقاب.  

الثاني، وهو يتماهى مع مطلب قيصر في نهاية المقابلة، أي السعي عبر الوسائل الدبلوماسية والقانونية اللازمة مع دوائر صنع القرار في واشنطن للعمل على إبطال عقوبات “قانون قيصر” الذي أقره الكونغرس الأمريكي ووقعه الرئيس دونالد ترمب في 2019 بعد إدلاء المذهان بشهادته تحت قبة الكابيتول في 2014.

فالنظام اليوم سقط وآثار هذه العقوبات تلاحق الشعب السوري على مستوى البنك المركزي والمعاملات المصرفية الدولية، والتقنية والاتصالات، وتسليح الجيش السوري الجديد، وقطاع النفط. إذ لا يعقل أن تتحرر سوريا من نظام الأسد وتبقى رهينة عقوبات يرزح السوريون تحت نيرها.

أضف تعليق