ما الذي يريده الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مقابل رفع سقف مطالبه الجنونية بشأن غزة؟ فما يفعله يتجاوز “فن الصفقة”، كتابه الشهير. إذ أن الصفقة تعني تحقيق الطرفين مكاسب بمعزل عن حجمها “Win Win Situation”، إلا أنه هذه المرة لا يريد للطرف الآخر أي مغنم بل على العكس يدفعه نحو الخسارة المحققة.
جمعت أفكاري المشتتة بفعل ما آلت إليه القضية الفلسطينية في ظل إصرار ترمب على تهجير سكان غزة ودعمه ضم مناطق في الضفة، وتوفيره غطاء للتوسع الإسرائيلي خارج الجولان السوري، ولتمديد بقاء القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان.
وحاولت التفكير بعقل ترمب نفسه لأعرف ما وراء مطالبه التعجيزية خصوصا أنه منشغل مع إيلون ماسك في تفكيك الدولة العميقة ومؤسساتها ووكالاتها الفدرالية، والتدقيق في ميزانياتها، وصرف آلاف موظفيها.

واستنتجت أن ترمب يسعى للحصول من العرب، خصوصا السعودية، على 5 مطالب كبرى على الأقل بمعزل عن ترتيبها:
الأول، مطلب إسرائيلي مصيري، يقضي بتخلي الدول العربية، لا سيما السعودية، عن مطلب إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية مقابل التطبيع مع تل أبيب. ويحقق ترمب فيه وعوده لمجموعات الضغط الإسرائيلية ولكبار ممولي حملته من اليهود والمتصهينين الإنجيليين، كما يضمن حمايتهم له في حربه الداخلية على الدولة العميقة.
الثاني، مطلب أمريكي تكتيكي، يهدف إلى الضغط على السعودية، التي تقود أوبك، لخفض أسعار النفط. وما ينتج عن ذلك من تقليص قيمة الواردات الروسية والإيرانية من عمليات البيع بغية الضغط على موسكو بشأن أوكرانيا، وكذلك على طهران في ضرب برنامجها النووي. ويتيح هذا المطلب للولايات المتحدة المستهلك العالمي الأكبر استيراد نفط تكلفته أرخص من استخراجه في أراضيها.
الثالث، مطلب أمريكي استراتيجي، بدفع دول الخليج، لا سيما السعودية وقطر والإمارات، إلى تمويل سباق التسلح الأمريكي في مجال الذكاء الصناعي بوجه الصين. وهذا السباق يتطلب تريليونات الدولارات، أي آلاف المليارات، تصرف على مراكز البيانات العملاقة التي تحتاج إلى أراض واسعة وطاقة كهربائية جبارة، وأنظمة تبريد غير عادية تعمل بالمياه، إضافة إلى التكلفة الرئيسية في إنتاج الخوادم والمعالجات وتطوير الخوارزميات.
الرابع، مطلب يعكس غرور ترمب وعنجهيته، إذ أنه يريد من السعودية رفع قيمة استثماراتها في الولايات المتحدة إلى تريليون دولار، وهو الشرط الذي وضعه لزيارة الرياض في أول زيارة خارجية له، بعد إبداء ولي العهد الأمير محمد سلمان رغبة السعودية الاستثمار بـ600 مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة.
الخامس، مطلب ابتزازي أكثر مما هو اقتصادي، بتقليص حجم المساعدات الأمريكية الخارجية وهو ما عبر عنه ترمب أمام العاهل الأردني بأن واشنطن تقدم أموالا كثيرة للأردن ومصر “لكننا لن نصدر تهديدات بشأنها”. وتقدر هذه المساعدات سنويا بـ1.7 مليار دولار للأردن، و1.5 مليار دولار لمصر. وتتربع إسرائيل على رأس قائمة الدول المستفيدة من المساعدات الأمريكية الخارجية في المنطقة بأكثر من 3.3 مليار دولار. ولا يستغرب مثل هذا المطلب خصوصا أن هدف ترمب لإنهاء الحرب في أوكرانيا ليس حقن الدماء بقدر ما هو وقف تدفق المساعدات الأمريكية لكييف التي بلغت أكثر من 17 مليار دولار سنويا.
أعتقد أن العرب لا يتأملون شيئا من مقررات القمة الطارئة في القاهرة نهاية فبراير الحالي على قاعدة “من يجرب المجرب…”، لكنهم يولون وجهوهم شطر السعودية التي يستضيف فيها الأمير محمد بن سلمان اجتماعا بحضور زعماء عرب بينهم قادة مصر والأردن، لتقديم خطة عربية بديلة تقضي بإعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين.
وبرأيي أن القادة العرب على دراية تامة، وهو ما عكسته مواقفهم الرسمية ووسائل إعلامهم الحكومية، أن القضية الفلسطينية وكذلك مصير دولهم وأنظمتهم على المحك. إذ أنه مجرد القبول بشروط ترمب التعجيزية ستنقلب المنطقة رأسا على عقب، شعبيا وأمنيا، ولن يكبح جماح الرئيس الأمريكي في طلب المزيد.
لقد أعادنا ترمب مئات السنين، إلى حقبة الاستعمار، حيث لا قانون ومنظمات دولية تقوم بحوكمة العلاقة بين الدول. فقد رد على استفسار صحفي بأنه بأي سلطة سيستولي على غزة، بالقول إنه بموجب “السلطة الأمريكية”. موقف إمبريالي يتماهى مع دعوة نتنياهو السعودية إلى إقامة الدولة الفلسطينية على أراضيها باعتبار أنها تملك ما يكفي من الأراضي.
لا يجب أن يقتصر الرد على خطط ترمب – نتنياهو بتقديم خطة بديلة. فهذه المواقف الكولونيالية بروح الصفقات العقارية استفزت عواصم أوروبية وعالمية مما يوفر أرضية مشتركة لمواجهة هذا النهج رسميا وشعبيا، حتى لا يؤكل الثور الأسود يوم أُكل الثور الأبيض. فالسعودية اليوم أمام فرصة ومسؤولية تاريخية لتولي زمام المبادرة بقيادة تحالف عربي إسلامي دولي للتصدي لهذا الخطر الداهم على أمنها القومي وكذلك العربي وعلى ما تبقى من حدود 1967.