المقال منشور في “القدس العربي” بتاريخ 15 فبراير 2025
ما إن دخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الأبيض في 20 يناير حتى استل أقلامه لتوقيع عشرات الأوامر التنفيذية بعضها مثير للجدل وآخر للخلافات الدستورية. لكن أحد أوامر ترامب طرق بابا مقدسا لدى الأمريكيين وهو الدستور، الذي صاغه الآباء المؤسسون في فيلادلفيا عام 1787 وضمنه بنود في كيفية تعديله أشبه بآلية تصحيحية لعقد اجتماعي أجمع عليه الأمريكيون ويعيشون تحت سقفه.
فالأمر التنفيذي «حماية معنى وقيمة الجنسية الأمريكية» المتعلق بمنع المولودين في الولايات المتحدة من حق الجنسية، إذا كان أحد الأبوين مقيم إقامة مؤقتة أو غير شرعية، اصطدم بشكل مباشر بالتعديل 14 للدستور في 1868 الذي ينص على أن «جميع الأشخاص المولودين أو المتجنسين في الولايات المتحدة، والخاضعين لولايتها القضائية، هم مواطنون في الولايات المتحدة والدولة التي يقيمون فيها». وبمعزل عن محاججة ترامب بأن المقيم إقامة مؤقتة، أو غير شرعية لا يخضع للولاية القضائية، فإن قاضيا فيدراليا في مدينة سياتل بولاية واشنطن علق تنفيذ الأمر، عدا عن أن 22 دعوى قضائية رفعت لإبطاله حتى هذه اللحظة في ولايات مختلفة.

المساس بالدستور انسحب أيضا على مقترح قدمه العضو الجمهوري في مجلس النواب أندي أوغلس، لإجراء تعديل يسمح لترامب بالترشح لولاية ثالثة بعد ثلاثة أيام فقط من تنصيبه. ويصطدم هذا المقترح بالتعديل 22 للدستور عام 1951 الذي حدد فترة الرئاسة بولايتين فقط، بعد أن حكم الرئيس فرانكلين روزفلت لأربع ولايات.
حرص الآباء المؤسسون عندما وضعوا الدستور، ثم وثيقة الحقوق في 1789 على أن لا يحكم البلاد ملك أو طاغية، من خلال توزيع وفصل واضح للسلطات بين الرئاسة والكونغرس والمحكمة العليا، وبالتالي أي تعديل للدستور يحتاج إلى ثلثي أعضاء الكونغرس، نوابا وشيوخا، ثم يعرض على المجالس التشريعية المحلية في الولايات للتصديق عليه، على أن يحصل على موافقة ثلاثة أرباع الولايات.
وبما أن ترامب، أو حتى فريق مستشاريه، يدرك صعوبة وربما استحالة تعديل الدستور في قضايا تثير الانقسام، لجأ إلى إصدار الأوامر التنفيذية، التي يجب أن تنحصر في إدارة عمليات الحكومة، رغم تمتعها بقوة القانون دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس، لكن يشترط في الأمر التنفيذي ألا يتعارض مع الدستور أو قوانين سارية، وبالتالي يحق للمحاكم الطعن في الأوامر، إذا كانت غير دستورية وإلغاءها.
يستند ترامب في قراراته هذه على ثلاثة عوامل رئيسية:
الأول هو الأغلبية المؤيدة له داخل المحكمة العليا بستة قضاة من أصل تسعة، التي يعول على دعمها في مواجهة الطعون والقضايا ضد قراراته. وكذلك السيطرة على مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ، والتي لا تسمح للديمقراطيين منفردين بتشريع قانون أو مواجهة الفيتو الرئاسي على القانون حال إقراره.
أما العامل الثاني، فهو ينطلق من الحالة الشعبوية التي يعكسها ترامب القادم من خارج الدولة العميقة، إذ يؤسس ترامب لحالة يسعى فيها زعيم أوحد لاحتكار السلطة وادعاء تمثيل الناس والتصرف بشكل توتاليتاري انطلاقا من مبادئ الديمقراطية. وكنا شاهدنا ترامب بعد هزيمته في انتخابات 2020، كيف ادعى هو وأنصاره أن الانتخابات سرقت ولا تعبر عن الرغبة الحقيقية للناس، كما هو الحال في معظم الأنظمة الشعبوية عند فوز الحزب المنافس. ففي هذه الدول، وخلافا لما أرسى أسسه الآباء المؤسسون، تفرغ الديمقراطية من مضمونها، وتحول إلى ديكتاتورية انطلاقا من الادعاء بأن الشعب هو مصدر لكل السلطات وليس للسلطة السياسية.
وأخيرا فإن العامل الثالث يعود إلى شعبية أجندة ترامب الانتخابية التي تحاكي تطلعات الناخبين المحافظين المنتشرين في ما يعرف بولايات القلب «Heartland» ذات الميول الجمهورية. وقد اتسعت مظلة هذه التطلعات لتحاكي حتى المحافظين بين الديمقراطيين، خصوصا في الولايات المتأرجحة، بعد التفشي المخيف لتيار اليقظة «Woke» بقيادة الديمقراطيين التقدميين، وقضاياه مثل حقوق المثليين ودعم الإجهاض والنسوية والهجرة والمجتمعات المهمشة والتغير المناخي. وكأن الولايات المتحدة تستحضر مجددا مفهوم «الحروب الثقافية»، الذي قسم الأمريكيين في مطلع التسعينيات، وفق الانتماء المناطقي، بين مدن وأرياف، وبين متدينين وغير متدينين. فقد جذب ترامب هذه المرة أصواتا من شرائح غير جمهورية بمخاطبة الجانب الديني المحافظ لديها، إضافة إلى الوعود بنهضة اقتصادية، وتخفيض للضرائب، وخلق مزيد من الوظائف.
يسعى ترامب في ولايته الثانية والأخيرة لأن يترك بصمة جمهورية أخرى في تاريخ أمريكا الحديث، مثلما فعل رونالد ريغان، بينما يتخوف آخرون من أن تقوده قراراته المتهورة وخطواته غير المتوقعة، إلى مصير أشبه بالذي واجهه ريتشارد نيكسون خصوصا أن ترامب كان على شفا حفرة من سجنه لولا الحصانة الرئاسية.