إدلب العز.. بوتقة الانصهار ولعنة آل الأسد

إلى إدلب يعود أبو محمد الجولاني هذه المرة باسمه أحمد الشرع وصفته الرئيس السوري وبلحية أقصر نسبيا، لكن بالنسبة لأهالي المحافظة المنسية في عهد الأسدين فالشرع ما زال “أبو محمد” الذي قاسمهم الضراء لأكثر من 10 سنوات.

توقف الزمن

أذكر إدلب جيدا، وتحديدا المدينة، بدواراتها وساحاتها وبعض شوارعها وكذلك الطريق من حلب إليها، رغم أن آخر زيارة لي كانت قبيل انطلاق شرارة الثورة قبل 14 عاما. وخلال سنوات عدة أثناء زياراتي من بيروت إلى دمشق وحلب وكذلك إدلب، كنت أتساءل في سري طبعا عن السبب الذي جعل الزمن يتوقف في هذه المدينة.

فإدلب كانت تعيش حرفيا على حافة التاريخ مقارنة بمدن سورية أخرى أو حتى إذا تجاوزنا معبر باب الهوى إلى أقرب قرية تركية، إذ يخيم عليها مشهد الإهمال وتقوم على بنية تحتية متهالكة عمرها عقود.

كنت ألمح في وجوه أهالي إدلب التعب والشعور بالظلم. فقد كانوا يقابلونني بابتسامة الشقاء علهم يجدون في زائرهم القادم من لبنان بعضا من رائحة أبنائهم العاملين في سوق الخضار قرب المدينة الرياضية في بيروت أو في مهن يدوية أخرى بمناطق لبنانية مختلفة. فمن حالفه الحظ من شباب إدلب حينها كانت تقوده الفرصة إلى دول الخليج، ومن كان على درجة علمية أو من عائلة ميسورة كان يحط رحاله في أوروبا أو الولايات المتحدة.

فردة الحذاء التاريخية

خلال إحدى الزيارات باستضافة أحد أصدقائي الجامعيين في بيروت كنا نسير في شارع القصور الهادئ قادمين من فندق الكارلتون إلى ساحة مبنى المحافظة باتجاه شارع الجلاء الصاخب الذي كان حينها على تواضعه وفقره ورائحة مطاعمه “الشانزليزيه الإدلبي”. أراد صديقي أن يتفاخر بأفضل ما في مدينته ويجيبني في الأثناء على سؤالي الملح لكن بلسان والده القاضي المتقاعد.

والقصة باختصار، أن حافظ الأسد عقب الحركة التخريبية وتوليه منصب الرئاسة كان في جولة على المحافظات عام 1971، مثلما يفعل الشرع اليوم تماما. وخلال زيارته إلى إدلب ووقوفه على سطح المبنى الثقافي في ساحة هنانو ليخطب بالناس، دب الخلاف بين الجمهور من البعثيين والناصريين، لتطير فردة حذاء باتجاه حافظ الأسد. ذكر لي صديقي الأحذية فقط دون أي إشارة إلى البندورة!

كانت هذه الزيارة اليتيمة لحافظ الأسد طوال سنوات حكمه الثلاثين كفيلة بعقاب جماعي لإدلب وشطبها من خريطة المحافظات السورية، مما انعكس عليها تهميشا وفقرا وظلما وقهرا.

أما ابنه بشار، وعلى خطى أبيه، فلم يجرؤ على زيارة المدينة منذ تنصيبه رئيسا عام 2000. واكتفى عام 2019 بتفقد قواته في قرية الهبيط الصغيرة بريف إدلب الجنوبي على حدود محافظة حماة.

إدلب خارج “التجانس”

استغربت تأخر انضمام مدينة إدلب إلى المظاهرات، فهي الأولى بهذه الثورة، بعد انتشار موجات الغضب في مدن وبلدات المحافظة مثل جسر الشغور صاحبة الثأر الثمانيني وكفرنبل مسقط رأس أول من تجرأ على محاولة اغتيال حافظ الأسد عام 1980.

شاهدت على الشاشات كيف كسرت مدينة إدلب حاجز الخوف في مظاهرات الجمعة العظيمة، 22 إبريل 2011، لتخرج لاحقا عن سيطرة النظام جزئيا في 2012 وبالكامل في 2015، ثم تتحول بعد 2017 إلى إحدى مناطق خفض التصعيد، وهنا يبدأ فصل جديد في تاريخها.  

منذ ذلك الحين، روج نظام الأسد سردية “سوريا المتجانسة” من خلال قتل واعتقال الثائرين وطرد اللاجئين وحشر النازحين في مناطق مثل إدلب خارج “سوريا المفيدة” التي تمتد من دمشق إلى الساحل مرورا بحمص. فنظام بشار كان يقصد بذلك دولة تتحالف فيها الأقليات مع بورجوازية سنية منتفعة من فساده لكنها لا تشاركه الحكم بقدر ما تمول بقاءه. 

بوتقة الانصهار

هكذا إذن قدم نظام الأسد خدمة للثوار من حيث لا يدري ودق أول المسامير في نعشه. فقد تحولت إدلب إلى بوتقة الانصهار “Melting Pot”، إذ يروي لي صاحبي نفسه أن ساحة الساعة فيها صارت سوريا الصغرى، فكل دكان فيها باسمه ومنتجاته يدل إلى منطقة أو محافظة. ففيها اكتشف السوريون بعضهم اجتماعيا وسياسيا وعقائديا وعسكريا، وتناحروا وتقاتلوا، إلى أن توحدوا في غرفة عمليات الفتح المبين. وشكلوا إدارة محلية “حكومة الإنقاذ” ذات الطابع الخدمي الإنمائي حيث فصل العمل العسكري عن المدني تماما لتكون نموذجا يقدم لاحقا بعد سقوط النظام لا سيما بعد تطور العلاقة مع دروز جبل السماق بإدلب وحماية مسيحيي المحافظة.

صارت مدينة إدلب المنسية سابقا عاصمة ما يعرف بالشمال المحرر وجذبت أنظار حتى القاطنين في مناطق سيطرة النظام إليها بعد ملاحظتهم تطور مستوى الخدمات فيها مقارنة بمناطقهم لا سيما لجهة الكهرباء والإنترنت وخدمات النظافة والصيانة وتوفر السلع أسواقها والبضائع في مولاتها المستحدثة. ففيها تراكمت الخبرات وبنيت رؤوس الأموال التي مولت التحرير، وهناك أيضا كانت حاضنة ملايين النازحين في مخيمات مأساوية على مد العين والنظر غطت أسقفها البلاستيكية والمعدنية على بساط المحافظة الخضراء من بساتين التين والزيتون وكروم العنب.

مؤشرات زيارة الشرع

وبرأيي، تؤشر زيارة الشرع الأولى على المحافظات وافتتاحها بإدلب بصفته الرئاسية إلى 4 أمور: 

الأول، الإقرار بالعرفان لأهل إدلب على صبرهم واحتضانهم “المهاجرين” وكذلك ما تحملوه من قصف انتقامي للنظام. وترسيخ لدور إدلب ورمزيتها عاصمة للتحرير. 

الثاني، التأكيد على الإيفاء بوعده بالعودة إلى المخيمات لهدها وإعادة النازحين إلى بلداتهم، وهو أحد أهم أسباب انطلاق عملية “ردع العدوان”. 

الثالث، الالتفات نحو قضايا الداخل السوري والاستماع لشكاوى الناس بعد إرساء قواعد الحكم في دمشق وفرض الاعتراف الدولي. وهذا انعكس في دفتر ملاحظاته الذي امتلأ أيضا بمطالب أهالي حلب وطرطوس واللاذقية حيث شوهد لأول مرة يرفع علم الثورة بيديه بين الحشود.  

الرابع، إثبات السيطرة الأمنية على الأرض، بالفعل وليس الكلام، من خلال جولة على مناطق في قلب الساحل السوري الذي روج النظام المخلوع سابقا على أنه حاضنته الشعبية والمليشياوية، لتثبت الصور لا سيما في طرطوس خلاف ذلك.

وأعتقد أن جولة الشرع وكذلك سيادة سلطة الحكم الجديد ستبقى منقوصة ما لم تشمل الرقة ودير الزور والحسكة مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وكذلك السويداء أرض جبل العرب وقبلة الدروز، والقنيطرة حيث بلدة فيق مسقط رأس أهل الشرع في الجولان، حيث توسع إسرائيل من توغلها هناك لا سيما منذ هروب الأسد.

أضف تعليق