لا أحبذ الاستشهاد بأقوال مأثورة أو الاقتباسات لأنني أعتقد أن الواقع أبلغ من أي تشبيه أو استعارة فضلا عن اختلاف السياقات. لكن يحضرني هنا قول نيتشه في كتابه “ما وراء الخير والشر”، عندما قال “احذر عندما تحارب الوحوش أن تصبح أنت نفسك وحشا”.
ومناسبة هذا الاستحضار هو ملاحظتي تماثلا بين إسرائيل وحزب الله في التكتيكات والسرديات، ليدفعني ذلك لأتساءل كيف استوحش كلاهما من بعضهما البعض.

“الاستيطان”.. تجمعات متقدمة تحمي العمق
يسعى الاحتلال الإسرائيلي دائما إلى إنشاء المستوطنات باعتبارها خطوطا دفاعية تحمي عمقه، ويجعلها تتناثر على طول حدوده مع عدوه. وتجلى ذلك في مستوطنات غلاف غزة أو في تلك التي تمزق الضفة الغربية وتفصلها عن أراضي عام 1948، وكذلك على طول الحدود مع لبنان. ويزج الاحتلال في هذه التجمعات الحدودية الطبقات الفقيرة أو الضعيفة من اليهود، إضافة إلى المتدينين المتشددين خصوصا في الضفة التي يسمونها “يهودا والسامرة”.
استخدم حزب الله الاستيطان منذ احتلاله مدينة القصير السورية التي تبعد أقل من 20 كلم عن بلدة القصر اللبنانية في أقصى الشمال الشرقي، هذا إذا سلكنا بالطبع المعابر الترابية غير الشرعية. فقد فتح الحزب المجال لعائلات منطقة الهرمل ذات الغالبية الشيعية، المعروفة بخزان شهدائه، بالانتشار في هذه القرى في ريف حمص الجنوبي. وتنتمي معظم العائلات في تلك المنطقة لفئة العشائر من المزارعين الذي عانوا عقودا من الإهمال، مما دفعها إلى الأعمال غير المشروعة مثل المخدرات وتزوير العملات وسرقة السيارات تحت أنظار نظام الأسد وحزب الله.
تحولت هذه البؤرة من القرى السورية بين ريف حمص الجنوبي وشمال شرقي لبنان إلى وكر للجريمة المنظمة وملاذ آمن للمطلوبين حتى للسلطات اللبنانية التي تعاونت مع السلطات السورية الجديدة في عملية إغلاق المعابر غير الشرعية وإعادة القرى إلى أصحابها السوريين، رغم أن عددا من تلك القرى خصوصا الحدودية يسكنها لبنانيون منذ عقود لتداخل الحدود بين البلدين.
شجع حزب الله العشائر تلك على الاستيطان في هذه القرى وشراء الأراضي وإنشاء الحسينيات تثبيتا لها، مستخدما سرديات مختلفة لهذا التحول الديمغرافي بينها حماية أهلهم وقراهم في الداخل اللبناني، وتأمين خط إمداد السلاح البري من إيران الذي يمر في تلك المنطقة قبل دخوله الأراضي اللبنانية.
وكان حزب الله يتعاون مع المليشيات الإيرانية والحرس الثوري للقيام بعمليات استيطان مشابهة على طول الطريق من معبر البوكمال إلى دير الزور والرقة وتدمر، ليكمل حزب الله الحزام الديمغرافي المستحدث من حمص إلى لبنان.
“الأهالي”.. قوة ضاربة غير رسمية
كان لافتا للبعض ربما من غير اللبنانيين مشاهدة مجموعات مسلحة من المدنيين تشتبك بالأسلحة المتوسطة مع القوى الأمنية السورية أثناء قيامها بالمداهمات وإغلاق المعابر غير الشرعية على طول الحدود المذكورة بين الهرمل اللبنانية والقصير السورية. هؤلاء الشباب من “العشائر” المسلحة في المنطقة استخدمهم حزب الله ستارا له في هذه المواجهة كونه بعد اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل لا يقدر على تحريك مقاتليه وآلياته وأسلحته الثقيلة مثلما فعل في معركتي جرود عرسال والقلمون في 2014 و2015. إذ أن المسيرات الإسرائيلية تحتل سماء لبنان وعلى جهوزية لتوجيه ضرباتها لأهداف حزب الله.
دأب حزب الله على استخدام “الأهالي”، أي مجموعات المدنيين، لتحقيق أهدافه السياسية. وهو ما فعله عندما وجه “الأهالي” إلى قطع طريق مطار بيروت والاصطدام مع عناصر الجيش احتجاجا على منع الطائرات الإيرانية من الهبوط بعد تهديدات إسرائيلية بقصف المطار.
وكان الحزب قد زج مرارا بـ”الأهالي” في مواجهة قوات اليونيفيل في جنوب الليطاني أثناء عمليات التفتيش عن الأسلحة تنفيذا للقرار 1701 بعد حرب 2006. مشهد تكرر أيضا أثناء اجتياح بيروت في أحداث 7 مايو 2008 اعتراضا على قرارات حكومية بشأن شبكة اتصالاته. ولأنه وجد في استخدام “الأهالي” جدوى، لم يتوان عن إرسالهم للاعتداء على لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري والاستيلاء على وثائق اللجنة أثناء تفتيشها في سجلات عيادة نسائية في أكتوبر 2010 بالضاحية الجنوبية.
لا يختلف تكتيك “الأهالي” عن استخدام إسرائيل لـ”المستوطنين” خصوصا أنه إذا أرادت الحكومة الإسرائيلية بشيء دون أن ينسب رسميا لها أو تتحمل مسؤوليته. فتطلق العنان لما يعرف باسم قطعان المستوطنين الذين يعيثون فسادا وخرابا وإجراما بحق الفلسطينيين في الضفة، فضلا عن ارتكاب جرائمهم على مرأى من جنود الاحتلال. وإذا قرر أحد توقيفهم أو محاسبتهم يتصدى له وزير الأمن القومي اليميني المتشدد إيتمار بن غفير، مثلما يفعل مسؤول الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا في ضغطه على المؤسسات الأمنية اللبنانية لإطلاق سراح الموقوفين من “الأهالي”، أو حتى تهديد قاضي التحقيق في تفجير مرفأ بيروت عندما اقترب من كشف المحظور.
المقامات.. إثبات وجود وتبرير المعارك
تحت شعار “حماية المقامات” برر حزب الله تدخله في سوريا في قمع السوريين واحتلال أراضيهم إلى جانب نظام الأسد. وبعد أن كانت مقامات أهل البيت تعد على أصابع يد واحدة في دمشق وريفها صار لا يمكن إحصاؤها وتمتد على طول الخريطة السورية وصولا إلى حلب والرقة ودير الزور ودرعا ومحافظات أخرى.
ورغم أن هذه المقامات محل تشكيك تاريخي طويل، إلا أنها كانت سردية رئيسية لإثبات أحقية في الأرض ولتعبئة المقاتلين وتهيئة البيئة الحاضنة لمعركة طويلة يسقط فيها آلاف القتلى والجرحى.
وخلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، أثار مقتل عالم الآثار والمؤرخ الإسرائيلي زئيف إيرلتش قرب بلدة شمع في جنوب لبنان استغرابا عن سبب وجوده مع الجيش الإسرائيلي هناك. ليتبين أن هذا الرجل مهووس في سرقة الآثار وإثبات حقيقة وجود الممالك اليهودية في المنطقة. ولما سمع عن مقام “النبي شمعون الصفا” أصر على دخوله عسى أن يجد شيئا يثبت له مبتغاه. وهذا الأمر ليس غريبا عن الإسرائيليين في استيلائهم على مقامات أو تحويلهم لها مثل ما فعلوا في القدس والخليل ونابلس، وكذلك استخدامها ذريعة للتنكيل بالفلسطينيين إضافة إلى النكش في تاريخ الأمم بحثا عن أي وثيقة أو قطعة حجرية تثبت لهم صدق سردياتهم التاريخية.
لن تسبى زينب وراشيل.. والعماليق مع أحفاد يزيد
أما السبي فتلك قصة أخرى، وبمعزل عن الدخول في تفنيدها أو تحقيقها، فإن شعار “لن تسبى زينب مرتين” أو “لبيك يا زينب” ارتبط بقتال حزب الله في سوريا. إذ أن مفهوم “السبي” هذا من أفظع ما يمكن استخدامه لتعبئة المقاتلين زودا عن أعراضهم وشرفهم، فكيف إذا كان شرف حفيدة رسول الله ﷺ. وترافق ذلك مع استحضار أدبيات من القرن السابع ميلادي من وحي معركة كربلاء وتوصيف الصراع على أنه بين أحفاد يزيد وأحفاد الحسين.
السردية نفسها استخدمها بنيامين نتنياهو في توصيف معركته ضد الفلسطينيين على أنها حرب النبي داود ضد العماليق أي العرب. بينما سردية السبي تستخدم منذ ما قبل إنشاء دولة إسرائيل أثناء تحريض العصابات الصهيونية من خلال قصائد كاتب النشيد الوطني الإسرائيلي الشاعر حاييم نحمان بياليك لا سيما قصيدته “في مدينة المذبحة”. وتجسد القصيدة قصة مقتل 49 يهوديا عام 1903 في مدينة كيشينيف الواقعة في مولدوفا اليوم. بياليك في قصيدته، التي تدرس اليوم في كل مدارس إسرائيل، شن هجوما على اليهود الذين اختبؤوا أثناء ارتكاب المجزرة فيهم واغتصاب نسائهم. شبههم بالفئران المرتجفة الذين يصلون بصمت وينتظرون معجزة إلهية، حتى بعد أن انفض القتلة كان جل همهم البحث عما إذا كانت نسائهن المغتصبات ما زلن طاهرات.