في أقل من أسبوعين سقط الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي أمام لكمات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المتتالية على مرأى من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والعالم أجمع. وزيلنسكي هذا كان قد أثار إعجابي بصموده أمام آلة القتل الروسية منذ بدء الغزو قبل ثلاثة سنوات في 24 فبراير 2022 ورفضه مغادرة البلاد. لكنه لم يتحمل الهجوم العنيف لترمب وفريقه القائم على الابتزاز والتهديد وسقف المطالب العالية. وهي الخلطة السحرية للرئيس الأمريكي والمستمدة من مستشاريه السابقين محامي العصابات الراحل روي كوهن وعراب الفساد والأعمال المشبوهة في الحملات الانتخابية والسياسية روجر ستون.

منذ التحضير للحملة الانتخابية، وضع ترمب الثروات الأوكرانية الطبيعية نصب عينيه. فالبلاد تعوم على بحر من المعادن لا سيما النادرة منها وبكميات هائلة على مستوى العالم، مثل خام الحديد والفحم والمنغنيز والتيتانيوم والليثيوم والغرافيت واليورانيوم، إضافة إلى عناصر أرضية نادرة مثل الزركونيوم.
ابتزاز في عقر الدار
قبل أيام أرسل ترمب وزير خزانته سكوت بيسنت لابتزاز زيلنسكي في العاصمة كييف ووضع أمامه اتفاقية تمنح الولايات المتحدة ما يقارب 50% من الثروات المعدنية الأوكرانية، أو ما يعادل 500 مليار دولار مقابل استمرار الدعم الأمريكي. “أمامك ساعة واحدة وإلا..” بهذه الكلمات توجه الوزير الأمريكي لزيلنسكي في عقر داره، فطلب مزيدا من الوقت لإحالة الاتفاق إلى الجسم التشريعي في البلاد.
وبعد الرفض الأوكراني وكشف مضمون ذلك إلى الإعلام، انطلقت الهجمة الأمريكية على 5 محاور:
الأول، هجوم شخصي عنيف شنه ترمب ومعاونيه على زيلنسكي واصفا إياه بالديكتاتور دون انتخابات، وكذلك جيشه بالفاسد. إذ تساءل عن مصير 350 مليار دولار أنفقتها الولايات المتحدة على دعم أوكرانيا. وهذا الرقم جزء من تكتيكات ترمب كون هذا المبلغ حظي بتشكيك على نطاق واسع، حتى أن زيلنسكي نفسه تحدث عن حوالي 70 مليار دولار قيمة أسلحة من 177 إلى 200 مليار دولار إجمالي المساعدات الأمريكية. وبالمناسبة هو الرقم الذي أكده وزير الخارجية ماركو روبيو.
الثاني، تلويح عملي بانفتاح على روسيا وتوافق معها على حساب أوكرانيا والضمانات الأمنية. وتكلل ذلك في اجتماع الرياض بين الوفدين الأمريكي والروسي، إضافة إلى تصريحات ترمب عن تحميل أوكرانيا مسؤولية الحرب وأنه من غير الممكن عودة الوضع إلى ما قبل 2014، بمعنى التنازل عن كل الأراضي التي احتلتها روسيا شرق نهر دنيبرو بما في ذلك القرم.
الثالث، التهديد بعزلة سياسية حيث توعد وزير الخزانة الأمريكي زيلنسكي بمنعه من لقاء نائب الرئيس جي دي فانس ووزير الخارجية روبيو في قمة ميونيخ إذا لم يوقع على الاتفاقية.
الرابع، التوعد بقطع المساعدات الأمريكية إلى أوكرانيا أو تقليصها. وهو وعيد يطال الدول الأوروبية أيضا التي سارعت إلى إعداد حزمة مساعدات قيمتها 20 مليار دولار لتعويض أي نقص محتمل. فبالنسبة للأوروبيين فإن سقوط الجبهة الأوكرانية سيضعهم على خط المواجهة المباشرة لاحقا.
الخامس، عزم شركة “ستارلينك” المملوكة من إيلون ماسك على وقف خدمات الإنترنت الفضائي فوق أوكرانيا. وهذه الخطوة كفيلة بانهيار كامل الجبهة كون القوات الأوكرانية تعتمد بالمطلق على هذه الخدمة في سلاح الإشارة وغرف التحكم والسيطرة لا سيما سلاح المسيرات وبالتحديد الانتحارية منها. وكان ماسك وتزامنا مع هجوم ترمب، قد اتهم زيلنسكي على “إكس” بقتل صحفي أمريكي، في إشارة إلى وفاة صانع الأفلام غونزالو ليرا في سجنه بخاركيف.
وتحت هذه الضربات الموجعة، التي تجاوزت قوتها صواريخ بوتين مثل إسكندر وكينجال، أبدى زيلنسكي استعداده للنظر في اتفاقية استثمارية وأمنية مع الولايات المتحدة حيث تعمل فرق البلدين على إعداد نسخة نهائية وبالتأكيد ستتضمن الثروة المعدنية.
صدمة في كل مكان
هكذا إذن صدم الرئيس الأمريكي العالم بما في ذلك الحلفاء في ابتزازه لأوكرانيا الجبهة الأمامية لحلف النيتو بوجه الخصم الروسي اللدود إلى درجة جعلتني أتخيل أن يتدخل بوتين لإصلاح ذات البين بين ترمب وزيلنسكي.
والصدمة هذه انسحبت أيضا على الداخل الأمريكي، بما في ذلك الجمهوريين، إذ أن صحيفة نيويورك بوست المحافظة وضعت صورة بوتين على غلافها مع عبارة “هذا هو الديكتاتور”. فوصف زيلنسكي بالديكتاتور، وهو الفائز باكتساح في انتخابات تحت إشراف دولي، لا يستقيم مع رئيس يحكم روسيا منذ 25 سنة ويفوز بانتخابات توصف بأنها صورية. كما أن صناع القرار في واشنطن على دراية تامة أن الدستور الأوكراني يمنع إجراء انتخابات في أوقات الحرب عدا عن أن هناك مليون مواطن على الجبهات فضلا عن مئات الآلاف يعيشون تحت الاحتلال الروسي، فمن سيشارك في هذه الانتخابات، وأي شرعية ستحظى بها؟
ضغوط وليس انحياز
تقلل أوساط الجمهوريين من عنف ترمب، وتضعه في سياق الضغوط على زيلنسكي للتوقيع أكثر مما هو انحيازا لروسيا. ويدللون على ذلك في أهمية زيارة كيث كيلوغ مبعوث ترمب إلى كييف ولقائه بزيلنسكي للحديث عن الضمانات الأمنية لأوكرانيا في حال التوصل لاتفاق مع روسيا، فضلا عن تفقده الجنود الجرحى وشكرهم على تضحياتهم.
وفي واشنطن أيضا، لا سيما داخل البنتاغون ومقر وكالة الاستخبارات الأمريكية، هناك إدراك تام أن بوتين يريد وقتا للراحة واستجماع قواه. فقد أبلغ مسؤولو وزارة الدفاع والاستخبارات ترمب أنهم لم يلمسوا أي مؤشرات على وجود تغيير في سياسة الرئيس الروسي.