طوى حزب الله أطول الفصول في تاريخه منذ تأسيسه عام 1982 مع تشييع أمينه العام الأسطوري حسن نصر الله ودفنه. فـ”السيد” ذو الهالة تشكل وعيي السياسي على حضوره منذ تربعه على عرش الأمانة العامة للحزب عام 1992 عقب اغتيال الأمين العام عباس الموسوي. واستطاع تحويل الحزب خلال 32 عاما إلى أقوى عسكرية إقليمية وربما عالمية بين المليشيات بمائة ألف مقاتل. إذ تمكن نصر الله و”المجانين” المجهولون الذين معه حتى اغتيالهم، تكوين كيان هجين بين تشكيلات الحركات الفاعلة من غير الدول “Non State Actor”، وبين الجيوش النظامية المدعومة بمنظومة متكاملة أشبه بحكومة ليكون فعلا دولة داخل الدولة. وربما يكون هذا النموذج الهجين أصاب الحزب في مقتل بفعل الخروقات الأمنية البليغة في مقابل منهجيته السابقة القائمة على حرب العصابات “Guerilla War”.
و”السيد” الساحر هذا يمتلك أيضا من أدوات الجذب والتأثير ما يكفي للإبهار الخادع جعلتني مثل كثيرين ينخدعون لسنوات طويلة بخروج الأرنب من القبعة. ولولا دماء السوريين ونتائج التحقيق الدولي في اغتيال رفيق الحريري وقبلها اجتياح مقاتليه لبيروت في 7 أيار/مايو 2008 لما انكشف ذلك الوجه الطائفي للجندي في حزب ولاية الفقيه. إذ لا يمكنك يا “سيد” أن تخدع كل الناس كل الوقت!

“العاقل الوحيد”
يوصف نصر الله بأنه “العاقل الوحيد” بين مجموعة من “المجانين” هم الرعيل الأول المؤسس لحزب الله والذين اغتيلوا تباعا من عماد مغنية ومصطفى بدر الدين إلى فؤاد شكر وغيرهم، وهم المسؤولون عن تفجير مقر قوات المارينز في لبنان عام 1983 وقتل 241 جنديا أمريكيا و58 فرنسيا.
لطالما كنت أعتقد أن إسرائيل لن تقدم على اغتيال نصر الله ليس لصعوبة تقصي أثره. إذ تبين أن الرجل كان مكشوفا لإسرائيل بمسيراتها وأجهزة رصدها في السنوات الأخيرة، بفعل الخروقات التي بلغت قياديا في وحدة الأماكن وآخر في منظومة اتصالات الحزب.
لكنني كنت أظن أن الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية خبرت نصر الله ودرسته وحللته على مدى سنوات وصار متوقعا ومألوفا لديها. وبالتالي فإن إسرائيل ليست على استعداد لمواجهة شخصية جديدة قد تكون متهورة أو من فئة “المجانين” لا سيما أن تجربة اغتيال الموسوي لم تكن ذات جدوى كونها أدت بالنهاية إلى ظهور نصر الله.
وبرأيي فإن توقيت قرار الاغتيال يؤشر إلى أن إسرائيل قد تكون تخلصت فعلا من كل “المجانين” في الحزب الذين قد يشكلون خطرا عليها سواء القادة العسكريين أو المرشحين لمنصب الأمين العام إلى مرحلة أن الحزب لم يعد يجد سوى رجل الظل نعيم قاسم أمينا عاما. إذ أن بنيامين نتنياهو كان قد أعلن قتل خليفة نصر الله الذي تبين لاحقا أنه هاشم صفي الدين وخليفة خليفته الذي يتوقع أنه نبيل قاووق.
تشييع نصر الله دفنٌ لمحور إيران
ومع دفن نصر الله بعد 5 أشهر تقريبا من اغتياله في 27 سبتمبر 2024 يدفن المحور الإيراني في المنطقة الممتد من طهران إلى البحر المتوسط مرورا ببغداد ودمشق إلى بيروت وإلى البحر الأحمر عبر خط صنعاء – الحديدة. والمحور هذا بدأت عملية دفنه في يناير 2020 مع اغتيال الولايات المتحدة في ولاية دونالد ترمب الأولى قائد قوة القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني و”أبو مهدي” مهندس المليشيات الإيرانية في العراق.
فالمحور، الذي لا يحتكر المقاومة، لم يكن سوى قاسم سليماني وحسن نصر الله، وبفقدانهما تكون إيران خسرت أذرعها الطويلة لأن أحدا لن يعوضهما في المنظور القريب. وقد تكون إيران أخطأت في حساباتها عندما حددت لحزب الله سقف إسناده لغزة وأحجمت عن حمايته حفاظا على برنامجها النووي. إذ أن القيمة العلمياتية لنصر الله وقبله سليماني من الأهمية بمكان تجعل إيران بخسارتهما تخسر قوة الردع لديها في دول طوق إسرائيل، وعاجزة عن حماية أهدافها الاستراتيجية في البرنامج النووي الذي يتعرض لضربات متتالية بفعل الاختراقات الإسرائيلية لمنظوماته ومفاعلاته.
وإقليميا، ترجم الاغتيال سريعا في السقوط المدوي لنظام الأسد في 8 ديسمبر، إذ عجزت إيران عبر حزب الله المنهك والمليشيات العراقية عن إنعاش حليفهم الاستراتيجي ليتهاوى خلال 11 يوما فقط بعد صموده لنحو 14 سنة.
مفاعيل الاغتيال لبنانيا
أما مفاعيل اغتيال نصر الله في الداخل اللبناني فأعتقد أنها انعكست عبر 4 أوجه:
الأول، قبول حزب الله بفصل الجبهات بين غزة ولبنان، واضطراره للمضي باتفاق لوقف إطلاق النار فيه من الغموض ما يكفي ليجعل إسرائيل تنفذ هجمات على 14 هدفا في لبنان فقط أثناء تشييع نصر الله وتحلق مقاتلاتها على علو منخفض جدا فوق بيروت في تشكيل جوي استعراضي لا يخلو من الشماتة ورسائل الإهانة.
الثاني، تحمل الحزب للغارات الإسرائيلية شبه اليومية منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار دون أي محاولة للرد، إضافة إلى تمديد فترة بقاء الجنود الإسرائيليين في جنوب لبنان ثم احتفاظهم بخمسة مواقع، وكذلك قبوله بالانسحاب من مواقع جنوب الليطاني لينتشر الجيش اللبناني فيها ويصادر أسلحتها. هذا فضلا عن إعلان نعيم قاسم خلال تشييع نصر الله أن الحزب سيواصل العمل المقاوم لكن حسب ما تقتضيه الظروف والمصلحة، وهو ما يعني قبولا بالأمر الواقع الحالي.
الثالث، توفير نواب حزب الله النصاب لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون وانتخابه ثم المشاركة في حكومة نواف سلام رغم كل السجالات المفتعلة لحفظ ماء وجهه أمام بيئته الجريحة.
الرابع، امتناع حزب الله عن الدخول في مواجهة مباشرة مع القوات السورية الجديدة أثناء مداهماتها لأوكار مصانع المخدرات والجريمة المنظمة التي تعود لمناصريه في بلدات سورية بين مدينة القصير السورية وبلدة القصر اللبنانية.
نهاية “الشيعية السياسية”؟
أنهى اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل عام 1982 ما يعرف بحقبة “المارونية السياسية” التي هيمن فيها المسيحيون الموارنة على مؤسسات الدولة ليجيء اتفاق الطائف عام 1989 ويؤسس لمبدأ المناصفة المسيحية الإسلامية ويجعل الصلاحيات التنفيذية في مجلس الوزراء من حصة المسلمين السنة عرفا. ومع تولي رفيق الحريري أولى حكوماته عام 1992 تأسست “السنية السياسية” لتدفن هي الأخرى مع اغتياله في 2005. ومنذ ذلك الحين، تمكن حزب الله بفائض القوة الذي يمتلكه محليا وإقليميا من فرض “الشيعية السياسية” ليتمكن من إيصال حليفه ميشال عون إلى سدة الرئاسة على حساب سنتين ونصف من الفراغ في منصب الرئاسة، ثم فرض التشكيلات الحكومية ورؤسائها مثل حسان دياب ونجيب ميقاتي بفعل قدرته على التحكم بأغلبية برلمانية من حلفائه.
الآن وبعد انعكاس مفاعيل اغتيال نصر الله على الحزب وكذلك على الداخل اللبناني، تطرح عشرات الأسئلة عما إذا كان حزب الله سيرتد من الحالة الإيرانية الإقليمية إلى اللبنانية المحلية وينهي بذلك عشرين عاما من “الشيعية السياسية” التي أثبتت هي ومثيلاتها عجزها عن إدارة الحالة اللبنانية المحكومة بالتوافق وبعقد اجتماعي مدني ينظم العلاقات بين مكونات البلد ويحفظ حقوقها.