اثنا عشر عاما فصلت بين دعوة رئيس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان أنصاره إلى وقف إطلاق النار والانسحاب من الأراضي التركية، وبين دعوته الأخيرة إلى إلقاء السلاح وحل الحزب لنفسه من خلال قرار يتخذه الحزبيون في مؤتمرهم. فما ضمانة نجاح هذه الدعوة خصوصا أنها أكثر تقدما عن سابقتها؟
لم تصمد دعوة أوجلان الأولى في 2013 سنتين كاملتين إذ قضت عليها التطورات المتسارعة في سوريا والمواجهات مع تنظيم الدولة الإسلامية لا سيما في منطقة عين العرب كوباني. وانعكست على تجدد العمليات الإرهابية في الداخل التركي حيث قوبلت بقصف عنيف على مواقع الحزب في جبال قنديل، وأماكن انتشار حلفائه في سوريا ثم من خلال عمليات برية “درع الفرات” و”نبع السلام” و”غصن الزيتون”.

السياقات المستجدة والمراجعات التاريخية
تأتي دعوة أوجلان هذه المرة، وهو السجين منذ 25 سنة في جزيرة إمرالي ببحر مرمرة، في سياق سياسي وإقليمي مختلف، وتتضمن مراجعات فكرية وسياسية غير مسبوقة مما يميزها عن سابقتها. وبرأيي فإنها تستند إلى 6 مرتكزات:
الأول، الاستحالة المطلقة لقيام دولة كردية في المنطقة، وما دعوته الأخيرة إلا دليل على ذلك إذ خلص إلى أن “الحلول القائمة على النزعات القومية المتطرفة، مثل إنشاء دولة قومية منفصلة، أو الفيدرالية، أو الحكم الذاتي، أو الحلول الثقافوية، لا تلبي متطلبات الحقوق الاجتماعية التاريخية للمجتمع”.
والاستحالة هذه تعود لأسباب جيوسياسية حيث ترفض دول الإقليم بالإجماع على اختلافاتها من إيران وأرمينيا إلى العراق وتركيا وسوريا قيام دولة كردية تقتطع من أراضي هذه الدول مجتمعة. وبعيدا عن تهديد الأمن القومي لتلك الدول فإن قيام دولة برية حبيسة بين محيط معاد لها أصلا يجعلها تفتقد لمقومات الحياة ويضع مصيرها في مهب ريح الأزمات وعدم الاستقرار. هذا عدا عن أن تجربة إقليم كردستان العراق ما زالت حاضرة، إذ لولا العلاقات المميزة مع أنقرة لما استطاع مواجهة الحكومة المركزية في بغداد وتصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي.
ثانيا، الإدراك بعدم جدوى التغيير الثوري بقوة السلاح بعد أكثر من أربعين عاما من الزج بالكرد في قتال الدولة التركية المتقدمة عسكريا والعضو في حلف شمال الأطلسي. وقد قابلت الدولة الإرهاب بقبضة حديدية لفرض الأمن وسيادتها، ومد يد ناعمة إلى المجتمعات الكردية في ديار بكر والجنوب الشرقي. وانعكس ذلك في التنمية والخدمات وتحكيم القانون والاعتراف بالخصوصية الثقافية للكرد بما في ذلك إنشاء قناة تلفزيونية حكومية ناطقة باللغة التركية. وقد وضع ذلك حزب العمال في مأزق اجتماعي وسياسي كون المجتمع الكردي سئم حالة الاضطراب والفوضى ووجد في الديمقراطية والانتخابات بديلا لإيصال صوته الذي تسبب بهزيمة حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات البلدية والبرلمانية الأخيرة لا سيما في إسطنبول. وبذلك، يتحمل أوجلان المسؤولية التاريخية لدعوته الحزب “لاتخاذ قرار بالاندماج مع الدولة والمجتمع”، ولمطلبه بأن “على جميع المجموعات التخلي عن السلاح”.
ثالثا، التحالفات الوقتية المشروطة مع الولايات المتحدة أثبتت عدم جدواها على مدى العقود الماضية، بما في ذلك العلاقة المشبوهة مع إسرائيل. إذ أن الاستناد إلى هذه القوى مرهون بمصالحها هي الأخرى. فقد أثبتت التجربة أن الورقة الكردية تستخدم للضغط ليس إلا، وسرعان ما ترمى عند تتحسن علاقات واشنطن أو إسرائيل مع دول الإقليم. ولا يمكن أن نغفل هنا أن حزب العمال الكردستاني مصنف إرهابيا ليس في تركيا فحسب بل في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
رابعا، مع تحول الليبرالية الديمقراطية إلى قضاء وقدر في عالم النظم السياسية، وانهيار الدول الاشتراكية تباعا منذ الاتحاد السوفياتي أو تحولها إلى اقتصاد السوق مثل الصين، ما عاد للشيوعية الفكرية والاشتراكية الاقتصادية من رفاق سوى الرفيق كيم جون أون. وانطلاقا من هذه المراجعات تأتي رؤية أوجلان بأن حل حزب العمال الماركسي اللينيني “أصبح ضرورة بعد أن استكمل دوره مثل نظرائه”.
خامسا، تشكل عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض انتكاسة لمنظومة المؤسسات التقليدية وانتصارا للسياسات القائمة على صفقات سياسية حيث يتحكم مفهوم الغاية تبرر الوسيلة بالدولة. ولذلك، يكيل ترمب المديح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويعرب عن إعجابه بالرئيس تركي رجب طيب أردوغان. وكما أن أي تقارب روسي أمريكي سيكون على حساب أوكرانيا، فإن أي صفقة تركية أمريكية ستكون حكما على حساب الفصائل الكردية.
سادسا، تغير الستاتيكو القائم في سوريا بهروب بشار الأسد ووصول حكم جديد يرفض مطلقا فكرة قيام إدارة ذاتية كردية شرقي الفرات مع الانفتاح على مطالب تنموية وترعى الخصوصية الثقافية لا سيما أن غالبية المنطقة التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” اليوم في دير الزور والرقة سكانها من العرب، ما عدا مدينة القامشلي ومدن وبلدات أخرى في محافظة الحسكة. وبالتالي فإن حسم ملف “قسد” بالنسبة للحكم الجديد في دمشق ليس إلا مسألة وقت يحتاج إلى تنسيق مع الجانب التركي، الذي بدوره يسعى للتوصل إلى تفاهمات مع الأمريكيين، وإلا قد نكون أمام سيناريو فرض أمر واقع مثلما حصل سابقا في ليبيا وكاراباخ الأذربيجانية عمليات “درع الفرات” و”نبع السلام” و”غصن الزيتون” في الشمال السوري.
دعوة أوجلان.. من يستجيب؟
لكن ما مدى تأثير دعوة أوجلان هذه على المجموعات الكردية سواء حزب العمال أم امتداده السوري حزب الاتحاد الديمقراطي PYD وجناحه المسلح قوات حماية الشعب الكردية YPG التي تشكل غالبية “قوات سوريا الديمقراطية”.
في سوريا، انقسمت ردود الفعل داخل البيت الواحد بين القيادي في PYD صالح المسلم الذي رحب بالدعوة كون مبرر حملهم السلاح ضد “داعش” والنظام السوري قد انتفى بعد توفر الأجواء المناسبة للنضال الديمقراطي. وبين قائد “قسد” مظلوم عبدي الذي اعتبر أن دعوة أوجلان إيجابية لكنها لا تعني قواته في سوريا خصوصا أن تهديد “داعش” ما زال قائما.
أما في تركيا، فمن الناحية السياسية الكردية لقيت دعوة أوجلان ترحيبا واسعا لا سيما من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الذي نقل قادته الرسالة من أوجلان، وكذلك من السياسي المسجون صلاح الدين دميرطاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطي المنحل. فالسياسيون الكرد يأملون الإفراج عن دميرطاش وأوجلان ضمن عفو حال نجاح الدعوة، خصوصا أن الحرب الطاحنة بين حزب العمال والدولة منذ نهاية السبعينيات خلفت حتى الآن أكثر من 40 ألف قتيل وعززت الانقسام الاجتماعي والوطني في البلاد.
لكن ماذا عن الجانب العسكري، فقد وضع الحزب شروطا لالتزامه بدعوة “آبو” لجهة وقف إطلاق النار وعدم القيام بعمليات مسلحة ما لم تشن الهجمات ضدهم. كما توقف الحزب عند قضية وضع السلاح التي “لا يمكن أن تتم إلا بالقيادة العملية للقائد آبو”. كما اشترط الحزب لنجاح الدعوة “ضمان تحقيق الظروف السياسية الديمقراطية والأرضية القانونية أيضا”.
إذن نستنتج أن التزام حزب العمال مرهون بالشروط أعلاه، كما أن “قسد” ستبقي على سلاحها حتى إشعار آخر إما بالاندماج ضمن الجيش السوري الجديد أو التوجه إلى صدام مسلح لن يسلم منه الإقليم.
. ولذلك يبقى الجواب العملياتي رهين الأيام المقبلة وما ستقرره المجموعة المختبئة في كهوف جبال قنديل وقائدها العسكري مراد قرايلان. ويتضح حينها ما إذا كان أوجلان ما زال ممسكا بزمام قيادة الحزب أم حولته عزلة جزيرة إمرالي في بحر مرمرة إلى رمز حزبي تاريخي ليس إلا.