الملك دونالد والحرب مع الدبابير

بينما كنت أطالع أحد الكتب الكلاسيكية استوقفتني قصة حدثت في العصور الوسطى لقائد عسكري أنقذ مدينة سيينا الإيطالية من عدو كاد أن يحتلها. احتار سكان المدينة الواقعة في إقليم توسكانا كيف يكافئوه، فلا المال ولا حفلات التكريم تضاهي إنجازه في الحفاظ على حرية المدينة. وبينما قرروا أن يجعلوه سيدا على المدينة، وجدوا ذلك أيضا غير كاف. عندها قدم أحد دهاتهم فكرة شيطانية لوجهاء المدينة مفادها “دعونا نقتله ثم نعبده كقديس شفيع لنا”، وهكذا فعلوا.

الملك والساحر

دفعتني هذه الحادثة لاستحضار الأجزاء الثلاثة من قصة “المؤامرة ضد الملك” المخصصة للأطفال والتي ألفها كاش باتيل. وهو اليوم مدير مكتب التحقيقات الفدرالية المعين حديثا والمثير للجدل بمشروعه تفكيك الـFBI وتحويله إلى متحف للدولة العميقة. وقصص كاش هذه تدور حول شخصية “الملك دونالد”، الذي استطاع بمساعدة “الساحر باتيل” مواجهة الدولة العميقة ومرشحي الحزب الديمقراطي ووسائل الإعلام الرئيسية في البلاد في قالب أسطوري من العصور الوسطى أيضا.

و”الملك ترمب” لم يعد حبيس قصص باتيل، إذ أن حساب البيت الأبيض على “إكس” نشر غلافا يحاكي أغلفة مجلة التايمز، تحتله صورة ترمب وعلى رأسه التاج، إلى جانبها عبارة “عاش الملك”، وذلك عقب قراره بمنع رسوم دخول السيارات إلى شبه جزيرة مانهاتن بنيويورك في ساعات الذروة. 

الولاء والطاعة أولا

لقد تخطى ترمب في إدارته البلاد عقلية رجل الصفقات والتطوير العقاري إلى الشعور بأنه “الملك”، قولا وفعلا. ولا أبالغ هنا بذلك، فالرجل يسعى لاختصار أجنحة السلطة الثلاثة، التنفيذية والتشريعية والقضائية، في شخصه. ولعمري إن في ذلك تفتيت حجر الزاوية الدستوري الذي قامت عليه الولايات المتحدة منذ وضع الدستور في فيلادلفيا عام 1789 بأن لا يحكم البلاد طاغية أو ملك.

يشعر ترمب بفائض من القوة في الكابيتول حيث لديه أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وكذلك في الشارع المقابل داخل المحكمة العليا حيث أن 6 من أصل 9 قضاة يؤيدون سياساته. أما في الجناح الغربي في البيت الأبيض وكذلك في المكتب التنفيذي للرئيس ومكتب الإدارة والميزانية، فيخضع كل من يعمل هناك من وزراء ومستشارين وموظفين لمبدأ الولاء الشخصي لـ”الملك” وطاعته المطلقة وعدم الاعتراض عليه ولو من باب مهني أو قانوني. ويدور حول هؤلاء كورس من النواب والشيوخ بلغ فيهم الأمر اقتراح إصدار ورقة نقدية جديدة من فئة 250 دولار عليها صورة ترمب أو استبدال صورته بصورة أحد الآباء المؤسسين بنجامين فرانكلين على ورقة 100 دولار.  

الاقتراب من المحظور

لقد استطاع ترمب منذ 20 يناير الماضي تسديد ضربات لمنظومة المؤسسات والوكالات الحكومية في البلاد. وسلط عليهم إيلون ماسك بصفته رئيس إدارة الكفاءة الحكومية وفريقه من مهووسي التقنية والذكاء الاصطناعي لتعقب مصاريفهم والتوصية بإغلاق مكاتبهم ووكالاتهم. وها هو اليوم يتوعدهم بالساحر “باتيل” في سعيه للقضاء على نفوذهم ومراكز قواهم والكشف عن أعمالهم القذرة من عمليات اغتيال آل كينيدي ومارتن لوثر كينغ إلى الاتجار بالأطفال واستغلالهم جنسيا في جزيرة جيفري ابستين.

لم يحدث أبدا أن انهزمت الدولة العميقة في الولايات المتحدة. إذ لا يكفي الاحتماء باللوبيات ولجان العمل السياسي لمواجهة ما يعرف بـ”الكبار”، أيا كانت قوتها بما فيها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “آيباك” أو تلك التي تمثل التيار المحافظ من الإنجيليين والمشيخيين. 

مصالح الكبار

والحديث عن الـ”كبار” لا يعني أشخاصا مثلما الحال في دول عربية أو جمهوريات الموز، بل عن منظومة متكاملة من المصالح والشركات والاستثمارات والإعلام تتحكم بالمسرح الأمريكي من خلف الستار. وتحتل المصالح الاقتصادية رأس الهرم مثل المجمع الصناعي العسكري، وشركات الأدوية الكبرى، وعمالقة النفط والطاقة، وبورصة وول ستريت والمؤسسات المالية الكبرى، وشركات الزراعة الكبرى، ووسائل الإعلام الرئيسية.

ومصالح هؤلاء الـ”كبار” اليوم في خطر على 5 مستويات على الأقل: 

الأول، فرض ترمب لرسوم جمركية على البضائع المستوردة سيرفع من الأسعار ويفاقم من التضخم، الذي يلقي بأسبابه على إدارة جو بايدن. 

الثاني، رسوم ترمب الجمركية ستقابلها أخرى مضادة مما سيخنق عمليات التصدير الأمريكية إلى الأسواق الخارجية بفعل الإحجام عن استيراد المنتجات الأمريكية لارتفاع كلفتها. 

الثالث، إيقاف تمويل المساعدات لا سيما الخارجية سيضر بكثير من القطاعات الأمريكية في الصناعات العسكرية والغذائية والدوائية، باعتبار أن الحكومة الأمريكية الزبون الأكبر لتلك الشركات الكبرى. 

الرابع، تراجع أسواق المال في وول ستريت وناسداك بشكل ملحوظ بفعل تصريحات ترمب بشأن التعريفات الجمركية وكذلك بسبب انخفاض مؤشر ثقة المستهلك وتراجع الانفاق الاستهلاكي. وأسواق المال هذه بالنسبة للأمريكيين وغيرهم، عدا أنها تعكس قوة الاقتصاد، فهي مخزن استثماراتهم وبرامجهم التقاعدية. 

الخامس، دفع ترمب لخفض أسعار النفط من خلال زيادة الإنتاج عبر دول أوبك سيؤدي بطبيعة الحال إلى زيادة الاستيراد نظرا لانخفاض سعره، والعودة للاستغناء عن الإنتاج المحلي الذي تعتبر تكلفة استخراجه مرتفعة.   

أعشاش الدبابير في خطر

بينما يستند ترمب إلى شعبوية “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا” و”أمريكا أولا”، والتي أعادته إلى الرئاسة بوعود تقليل الإنفاق الحكومي ومكافحة الهدر والفساد وتقليل المديونية وحماية القيم المحافظة ومؤسسة العائلة، إلا أنه صار يقترب كثيرا من أعشاش الدبابير التي لم تعد تحتمل الضربات التي تتعرض لها وقد ينكسر أحدها في أي لحظة. وعندها لا أحد يعلم ما الذي سيحصل؟ هل يستطيع “الملك دونالد” بمساعدة الساحر “باتيل” إبادة الدبابير؟ أم أن الدبابير ستتحالف وتقضي عليه؟ أو ربما يلجأ السكان المثقلين بالتضخم والانكماش الاقتصادي إلى التضحية بـ”المخلص” وتقديسه لاحقا؟

والتاريخ الأمريكي يشهد على حوادث مشابهة طالت رؤساء تحولوا إلى رموز من مخلصهم من العبودية أبراهام لينكولن إلى قائد سباقهم إلى الفضاء جون كنيدي، مرورا بجميس غارفيلد وويليام ماكينلي. هذا فضلا عن محاولات كثيرة لم تنجح على مر التاريخ الأمريكي استهدفت ملهمه رونالد ريغان ولم يسلم منها “الملك دونالد” مرتين في بنسلفانيا وفلوريدا.

أضف تعليق