هكذا إذن يواجه السقف العالي من الطلبات والشروط التعجيزية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بمزيد من المعاندة. وترمب “ابن السوق” يعلم جيدا أن معاندة الطرف الآخر تعني واحدا من اثنتين: إما فشل الصفقة أو اضطراره لخفض مطالبه وشروطه للتوصل إلى مساحة مشتركة يخرج منها الطرفان بمكاسب.
هي قواعد البازار تحكم مجددا العلاقة بين الإدارة الأمريكية والعالم، بما في ذلك “منظمة إرهابية” مثل حركة حماس. وهذه المنظمة بمعاندتها دفعت أقوى قوة عسكرية وسياسية واقتصادية في العالم للجلوس معها لإجراء محادثات مباشرة غير مسبوقة. ويتحول بذلك دور قطر إلى مضيف للطرفين بدلا من وسيط يتنقل بينهما داخل مكاتب مبنى وزارة الخارجية في الدوحة.

الخطة المصرية.. معاندة أخرى
ومعاندة حماس وسكان القطاع لأكثر من 471 يوما عززت من موقف القادة العرب خلال القمة العربية الطارئة في القاهرة. وهؤلاء القادة تواجه بلادهم تهديدات سواء بمشروع ترمب تهجير سكان غزة مثل مصر والأردن، أو حتى سوريا التي ترزح تحت وطأة التوغلات الإسرائيلية اليومية ودعم مشاريع التقسيم فيها، فضلا عن لبنان الذي خرج من حرب ما يسمى الإسناد باحتلال إسرائيل مزيد من أراضيه وأسر مواطنيه.
وبذلك، استشعر المجتمعون في القاهرة الخطر الداهم عليهم مما جعلهم هذه المرة يتفقون على أن لا يختلفوا. وخرجوا بتأييد الخطة المصرية بوجه مقترح ترمب التي تتضمن مشروعا لإعادة الإعمار دون تهجير وهدنة متوسط الأمد في الضفة وغزة تؤسس لإطلاق مسار سياسي يؤكد على حل الدولتين، على أن تبحث مسألة نزع السلاح بالتزامن مع المسار السياسي.
وأعتقد أن المحادثات المباشرة بين حماس والإدارة الأمريكية بشخص مستشار ترمب لشؤون الرهائن آدم بولر تعكس 6 مؤشرات:
الأول، التسليم بأن حماس لم تهزم وأنها أمر واقع يجب التعامل معه رغم أنها مدرجة على قوائم الإرهاب الأمريكية منذ 1997.
الثاني، الاعتراف بأن فكرة القضاء على حماس غير قابلة للتحقيق، وذلك من خلال الاستعداد لإبرام هدنة طويلة الأمد في غزة. فهذه الهدنة إذا لم تكن حماس الطرف الآخر فيها فمن الذي سيكون؟
الثالث، جرأة إدارة ترمب على الذهاب إلى أقصى الحدود بالتفاوض المباشر مع حركة “إرهابية” تنفيذا لمبدأ الضرورات تبيح المحظورات تعني الجدية الأمريكية في التوصل لاتفاق يبرر هذه الخطوة والإيفاء بتعهدات ترمب. إذ أن الرئيس الأمريكي يتعرض إلى ضغوط كبيرة في الولايات المتحدة لا سيما من اليهود الأمريكيين بهدف تحرير الأسرى. الأمر الذي دفعه للقاء ثمانية منهم في المكتب البيضاوي تأكيدا على الالتزام بتعهده. وهذا ما يبرر أيضا تهديد “شالوم حماس” الذي أطلقه ضد الحركة عبر منشوره على منصة تروث سوشال عقب الكشف عن المحادثات مع الحركة.
الرابع، تحول إدارة ترمب من وسيط وضامن إلى طرف في المفاوضات نظرا لانعدام الثقة بقدرة نتنياهو على حسم الأمور عملياتيا من خلال الحرب. وكذلك من خلال المفاوضات بعد إصرار حماس على الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق ورفضها مقترح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف بتمديد الهدنة خمسين يوما مقابل الإفراج عن نصف الأسرى الأحياء.
الخامس، قلق نتنياهو من جريان المياه من تحت قدميه من خلال التفاوض المباشر بين إدارة ترمب وحماس، مما دفعه إلى تحريك ماكينته الإعلامية عبر القناة 14 للتأكيد أنهم لو أرادوا عرقلة المحادثات لفعلوا وأن حدوثها لا يغير من موقف ترمب الحازم من استئناف الحرب.
السادس، تخوف أمريكي واضح من عزم نتنياهو على إفشال أي تقدم في المفاوضات وإعادتها إلى المربع الأول لا سيما بعد صدور نتائج تحقيق الجيش والشاباك في هجوم 7 أكتوبر وتراجع شعبيته وسط دعوات من حوالي 60% من الإسرائيليين إلى استقالته. وبالتالي، فإن اللجوء إلى استئناف الحرب وإطالة أمدها سيطيل حكما بعمر حكومة نتنياهو الذي يواجه اتهامات بعرقلة تشكيل لجنة تحقيق رسمية في الهجوم الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل.
خلط الأوراق ومأزق نتنياهو
وإذا أرادت حماس خلط الأوراق مجددا وتعميق الفجوة بين ترمب ونتنياهو بإمكانها القيام بمبادرة حسن النية من خلال الإفراج عن آخر أسير أمريكي لديها هو إيدان ألكسندر، إضافة إلى جثامين أربعة من مزدوجي الجنسية الأمريكية الإسرائيلية. وبهذه الخطوة، يضمن ترمب حفظ ماء وجهه أمام ناخبيه بالإيفاء بتعهده. كما يقع نتنياهو في مأزق أمام الداخل الإسرائيلي لعجزه عن الإفراج عن الأسرى، مما جعل إدارة ترمب تلعب منفردة وتستعيد مواطنيها أحياء وأموات. لكن الطريق ليس معبدا إذ أن نتنياهو ومع استشعاره بالخطر قد يلجأ لتفجير هذه المحادثات من خلال استئناف الحرب على الأقل، مما يعزز من فرضية الاصطدام مع ترمب خصوصا أن تاريخ العلاقة بينهما من أسوأ ما يكون.
الاعتراف بالقوة لا التصنيفات
أخيرا، تأتي المحادثات المباشرة بين حماس والإدارة الأمريكية لتجدد التأكيد أن تصنيفات الإرهاب لا قيمة لها إذا كان المصنف يتمتع بالقوة وبيده ما يكفي من أوراق الضغط مثلما حدث إبان إدارة الرئيس جو بايدن بالجلوس مع حركة طالبان والتفاوض معها وتوقيع اتفاق الدوحة 2020. وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع الرئيس السوري أحمد الشرع الذي كانت الولايات المتحدة قد وضعت مكافأة بقيمة 10 مليون دولار مقابل الإدلاء بمعلومات تقود إلى اعتقاله، قبل أن تعلن إلغاءها. وبذلك، تكون حماس كرست هذه المعادلة بإظهار قدرتها على الاحتفاظ بأوراق القوة رغم ضراوة الحرب وسقوط قادتها.