سوريا وأحداث الساحل.. اختبارات وتحديات أمام دولة الشرع

أسرع مما توقعت وخلافا لما تصورت واجهت الدولة السورية الجديدة إرهاصات ثورة مضادة في أقل من 3 أشهر فقط من إطاحتها بنظام بشار الأسد، واتخذت طابع تمرد مسلح لا انتفاضة سياسية.

بالحديد والنار، قمعت الدولة السورية محاولة الانقلاب المسلح والسيطرة على مناطق واسعة في مناطق الساحل مثل طرطوس واللاذقية وبانياس وجبلة والقرداحة وعشرات القرى وصولا حتى إلى ريف حمص. والمعارك على ضراوتها استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة من الصواريخ والمدفعية إضافة إلى المسيرات الانتحارية والقاذفة. مشهد يؤكد أن المواجهات لم تكن مع مجموعات ارتجالية غير منظمة، وإنما بمواجهة عصابات كانت تستعد لهذه المواجهة، وتتخذ من الجبال حصونا لها، وتستخدم أسلوب الكر والفر مما صعب من عمليات القتال.

كاد الساحل السوري أن يخرج عن سلطة المركز في دمشق، كما هو الحال في مناطق الجزيرة السورية حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على حوالي ثلاثين في المئة من مساحة البلاد، بينما يختلف الوضع قليلا في الجنوب بين ما يجري في السويداء ذات الغالبية الدرزية والتي تواجه مغريات وضغوط إسرائيلية. وكذلك في مناطق درعا حيث ما زالت هناك مجموعات مرتبطة بالنظام المخلوع مثل جماعة محسن الهيمد، وأخرى عملت تحت المظلة الروسية في إطار التسويات بقيادة أحمد العودة.

ويصح وصف ما جرى في الساحل بأنه كان الجزء الثاني من معركة ردع العدوان. وأعتقد أنه فرض 5 اختبارات مرهقة على الدولة السورية الجديدة:

الأول، اختبار قدرة دولة المركز على الحسم، بالتفاوض أو الحديد والنار، أي محاولة تمرد أو انقلاب. ويدل على ذلك معالجة توترات جرمانا بالحوار وسحق مجموعة محسن الهيمد في الصنمين بدرعا باشتباكات ضارية، وأخيرا ما جرى في مناطق الساحل حيث كان التحدي الأكبر والأخطر.

الثاني، اختبار لقوة المجموعات المتمردة لا سيما في الساحل، حيث يتحصن معظم ضباط النظام الكبار، على حشد العديد البشري للقتال وكذلك العتاد لا سيما من السلاح المتوسط والثقيل. 

الثالث، اختبار لمدى وكيفية تفاعل الداخل السوري مع هذا العصيان المسلح. إذا لم تسجل أي تحركات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ولا في السويداء مما ينفي أي محاولة للدعم أو التنسيق العلني على الأقل. في المقابل، تداعت معظم المناطق السورية لإسناد قوات الأمن العام ووزارة الدفاع في عملياتها بالخروج في مظاهرات وتسيير قوافل من آلاف المسلحين أغرقت سيارتها الطرق السريعة إلى الساحل. 

الرابع، اختبار لشعار “فتح لا ثأر فيه” الذي رفعه أحمد الشرع خلال مرحلة ردع العدوان الأولى والتي تقول التجربة إن الاختبار وقتها نجح، لكنه هذه المرة سقط في سفك دماء لا ذنب لها بفعل فوضى السلاح والنوايا الانتقامية ذات البعد الطائفي لا سيما أن أكثر من نصف الشعب السوري يعتبر نفسه من أولياء الدم.

الخامس، اختبار للمساحة الإقليمية والدولية في تفاعلها مع هذا التطور. فبينما اكتفت إيران بمراقبة الوضع كما تقول، ودعمت روسيا وحدة الأراضي السورية لكنها فتحت أبواب قاعدتها في حميميم لإيواء الفلول، أقدمت تركيا على إرسال تعزيزات عسكرية إلى مواقعها في الداخل السوري. وعملت على مد الحكومة السورية بكل المعلومات الاستخبارية التي ساعدت في تحديد المسؤولين عن محاولة الانقلاب والذي تبين وجود تنسيق بينهم وبين قوات سوريا الديمقراطية وحزب الله في لبنان. 

وأحداث الساحل، برأيي، هذه تطرح 5 تحديات على المشهد في سوريا وانعكست في كلمة الرئيس السوري التي تبرأت من عمليات الانتقام:

أولا، لا بد من حسم قضية سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا على ثلث مساحة البلد. فلولا هذا الأمر لما يتجرأ أحد على فكرة الانفصال المدعوم خارجيا، كما تفعل إسرائيل في ملف الدروز، أو مثلما تسعى قوى مسلحة من العلويين إلى طلب الحماية الروسية. 

ثانيا، لا تزال هناك خلايا محلية تتحين الفرصة للانقضاض على شرعية الدولة مدعومة من حلفائها في دول الجوار لا سيما في العراق ولبنان. وما الإعلان عن “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا” التي تفوح منها رائحة الحرس الثوري الإيراني، و”المجلس العسكري لتحرير سوريا” بقيادة العميد في قوات النظام المخلوع غياث دلّا ومعه “لواء درع الساحل” بقيادة الشبيح مقداد فتيحة، إضافة إلى المجلس العسكري في السويداء إلا مجموعات تطفو على سطح مستنقع من الماء العكر. ولا يعني إجراء عمليات تسوية لجنود النظام وضباطه التزامهم بذلك ورميهم للسلاح خصوصا أن بين قتلى المواجهات الأخير من أجروا عمليات تسوية. 

ثالثا، حسم مسألة تفشي السلاح غير المنضبط وعمليات الثأر والانتقام الطائفية. إذ لا يمكن فصل ما جرى في الساحل عن سيناريو مفتعل لإحداث مقتلة بحق العلويين تستدعي تدخلا دولية أو خروج دعوات للحماية الدولية. مما يجعل حكومة الشرع أمام تحد آخر هو الوصاية الدولية ويجردها من شرعيتها الثورية التي دفعت العالم أجمع للاعتراف بها. كما يجب ألا ننسى أن “هيئة تحرير الشام” رغم حلها ما زالت تنظيما إرهابيا على قوائم الدول الكبرى.

رابعا، الإسراع في مسار تحقيق العدالة الانتقالية لتنفيس الاحتقان الشعبي الذي تم كبته في الثامن ديسمبر وانفجر بعد أقل من ثلاثة أشهر في مواجهات الساحل مما أسفر عن سقوط مئات من القتلى. وهذا يتطلب أيضا مراجعات للاتهامات بحدوث سياسات “العقاب الجماعي” التي أدت إلى فصل الآلاف من وظائفهم أو تعرضهم لمضايقات.  

خامسا، التعجيل في المسار السياسي وتحقيق أقصى انفتاح ممكن على جميع المكونات بهدف طمأنتها واستمالتها بعيدا عن المحاصصة والطائفية السياسية. فتجربة الحوار الوطني وتشكيل لجنة صياغة الدستور تعرضت للكثير من الانتقادات والملاحظات التي يجب التعلم منها. 
وأمام كل ذلك، أرى أنه لا بد أيضا للبعض في سوريا أن يدرك أن عودة أو إعادة تدوير نظام الأسد لن تتحقق بأي شكل من الأشكال لا عبر إطلاق إشاعات عودة ماهر الأسد أو تصدير ضباط النظام السابقين أو وجوه حقبته إلى الواجهة. فزمن الأسدين في سوريا قد انتهى لمن يقرأ المؤشرات الإقليمية والدولية التي خلطت أوراق المنطقة منذ هجوم 7 أكتوبر في غزة. كما أني أجد أن المطلوب الآن من كل الأطراف إعلاء صوت العقل والالتفاف حول الدولة الجديدة التي كفلت لجميع المكونات منذ سيطرتها على حلب وصولا إلى دمشق حقوقها وخصوصياتها. إذ يبدو وللمفارقة أن أحمد الشرع هو الرجل الوحيد القادر على ضبط هذا المشهد إلى أن خرجت الأمور عن السيطرة في أحداث الساحل، والشرع الآن أمام التحدي الذي يتطلب تعاون الجميع لضبط الأوضاع وضمان عدم تكرار الحوادث الدموية ومحاسبة مرتكبيها أيا كانوا.

أضف تعليق