منذ عملية تفجير البيجر في 17 سبتمبر الماضي وصولا إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في 27 من الشهر نفسه، ثم خليفته هاشم صفي الدين في أقل من 10 أيام، لم تتوقف الأسئلة عما جرى لحزب الله. فالحزب خسر خلال ما سماها حرب الإسناد حوالي 36 من نخبة قادة الصف الأول والثاني مما طرح علامات استفهام لدى بيئة الحزب نفسه قبل الآخرين عما يجري.
أكثر من ذلك، اضطر الحزب إلى القبول بفصل المسار مع جبهة غزة والتوقيع على اتفاق لوقف إطلاق نار لم تتوان إسرائيل عن خرقه وقتل المزيد من كوادر الحزب، منذ إعلانه في 27 نوفمبر الماضي، ودون أي رد من الحزب.
إذن ما الذي جرى لحزب الله؟ سؤال خيم على مقابلات إعلامية توالت في أقل من أسبوعين أجراها قادة في الحزب وصحفيون يسبحون في محيطه. وأهم تلك المقابلات جرت مع الأمين العام الجديد نعيم قاسم وكذلك مع مسؤول الموارد والحدود نواف الموسوي. إذ أن الحزب بعد تشييع نصر الله وصفي الدين صار مستعدا أكثر للإجابة على هذا السؤال خصوصا أن الحرب أجبرته على التراجع من مرحلة إلى أخرى بما يتضمنه ذلك من تغيير في الأساليب والتكتيكات وحتى في الدور على المستويين الداخلي والإقليمي.

فينوغراد حزب الله: ما بعرف شو صرلنا!
وبرأيي فإن المقابلة مع نواف الموسوي التي استبقت مقابلة نعيم قاسم شكلت صدمة لجمهور الحزب وخصومه على السواء. فالرجل ظهر على قناة الميادين ليخاطب جمهورها المناصر لما كان يعرف بمحور المقاومة لبنانيا وعربيا. والموسوي معروف بلسانه السليط وبأسلوب حديث غير منمق أو دبلوماسي، تحدث على الملأ وكأنه في لجنة تحقيق داخلية. ولشدة صراحته وعفويته وصفه البعض بـ”فينوغراد” حزب الله، في إشارة إلى القاضي إلياهو فينوغراد رئيس لجنة التحقيق الإسرائيلية عقب حرب تموز 2006. وبينما استخلصت إسرائيل العبر من تقرير “فينوغراد” وترجمتها في هذه الحرب، كان حزب الله لا يزال يدير معركته وكأن الزمن توقف في 2006.
أصر الموسوي في أكثر من مرة على القصور والتقصير داخل الحزب وليس تحقيق إسرائيل لإنجازات. وخيم الغضب عليه عندما توقف عند عملية البيجر، متسائلا كيف غفل الأمن الوقائي في الحزب عن تفكيك هذه الأجهزة قبل استعمالها. وهو أي الموسوي نفسه يتعرض لتفتيش دقيق خلال زيارته لنصر الله يبلغ فحص خواتمه وأزرار قميصه.
انتقادات الموسوي لم تتوقف هنا بل بلغت مقر إقامة نصر الله الذي استهدف في الحرب، متعجبا كيف يمكن أن يتواجد في الضاحية الجنوبية التي تحصي إسرائيل حبات الرمل فيها على حد وصفه، خصوصا مع توفر مقرات بديلة خارج الضاحية سبق واستخدمت في حرب 2006 عندما كان نصر الله يدير العمليات مع قاسم سليماني. كما أعرب الموسوي عن صدمته في كيفية قبول صفي الدين استخدام مقر مشابه في المواصفات لمقر نصر الله الذي استهدف قبل 10 أيام فقط، مستهجنا “على ماذا كان يراهن” في اختيار هذا الموقع.
لا يعزو الموسوي القضية إلى الاختراق البشري والتقني فحسب بل هو أيضا عاجز عن إيجاد إجابة واضحة ويقول “ما بعرف شو صرلنا!”. لكنه حمل القيادات الأمنية التي خلفت عماد مغنية ومصطفى بدر الدين مسؤولية القصور، ويقول إن اغتيالهما كان له ثمن. وهنا تكمن الإشارة إلى أعضاء المجلس الجهادي الذين اغتيلوا تباعا، وأبرزهم فؤاد شكر الذي اغتيل في يوليو 2024 وكذلك إبراهيم عقيل الذي اغتيل قبل أسبوع من اغتيال نصر الله في 20 سبتمبر.
ويشار هنا إلى أن عقيل كان صاحب رأي مغاير لأسلوب معركة الإسناد. وهو الأمر الذي جعله يتنحى عن قيادته للمعركة بعد خلاف مع أعضاء المجلس الجهادي الذي فضلوا الذهاب باتجاه نصف حرب. وبرأي عقيل إن نصف المعركة قرار ستكون تبعاته اصطياد قادة الحزب وتصفيتهم وهو ما كان.
نعيم قاسم.. أمين عام الصدفة
لا أبالغ عندما أقول إن نعيم قاسم هو أمين عام الصدفة في حزب الله. فهو بنفسه خلال المقابلة مع قناة المنار ومن تخاطب، قال إنه بعد اغتيال نصر الله أبلغ هاشم صفي الدين أنه الأنسب لهذه المهمة. وكشف قاسم عن أن مهامه كانت سياسية تتعلق بإدارة نواب حزب الله ووزرائه ولم يكن مكلفا أو مطلعا حتى انتخابه على أي ملف أمني وعسكري، حتى أنه ظهر غير ملما بمقر إقامة هاشم صفي الدين وخصائصه الفنية والأمنية، عندما تحدث عما سماها “خبرية” بوجود غرفة محصنة فيها أوكسيجين.
لكن الأخطر في كلام نعيم قاسم هو إشارته إلى تحركات كانت تجري خلال الحرب بينها لقاءه بنصر الله في منتصف شهر سبتمبر أي قبل اغتياله بحوالي 10 أيام، وكذلك اتصالهما ببعض صبيحة اغتيال إبراهيم عقيل، فضلا عن اتصال آخر أجري مع صفي الدين بعد اغتيال نصر الله. والغريب أن هذه التحركات والاتصالات، ولو كانت على الشبكة الداخلية للحزب، إلا أنها تأتي بعد إقدام إسرائيل على عملية تفجير البيجر وأجهزة اللاسلكي واصطياد قادة الحزب ونخبه. وهنا نعود لسؤال الموسوي نفسه، على “ماذا كان يراهن” نصر الله ونعيم قاسم في عدم اختراق الشبكة الداخلية. فالعالم عرف من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لا من حزب الله، من هو خليفة نصر الله أي هاشم صفي الدين، ومن هو خليفة خليفته أي مسؤول الأمن الوقائي نبيل قاووق.
وإجراء نصر الله للاتصالات لم يقتصر على نعيم قاسم بل شمل آخرين بما فيهم نواف الموسوي بحسب ما قال هو في مقابلته، وهذا يدل أيضا على حجم التساهل الأمني من قبل نصر الله نفسه الذي على ما يبدو أنه هو من اختار بقاءه في موقع إقامته بالضاحية. وهو الأمر الذي أخرج الموسوي عن طوره عندما استغرب كيف سمح جهاز الأمن لنصر الله أن يختار مقر إقامته باعتبار أن ذلك قرارا أمنيا خالصا لا يمكن التدخل فيه.
وأعتقد أن حزب الله مثلما أراد من هذه المقابلات مكاشفة بيئته قبل غيرها، سعى أيضا إلى إرسال 4 رسائل على مستوى الدور والمرحلة:
أولا، قرار حزب الله باتباع منهجية “الصبر الاستراتيجي” الإيرانية، وما يعنيه ذلك من تفضيله دور براغماتيكي محدود ومنكفئ على أن يقدم على الانتحار بشكل أسطوري. وظهر ذلك، في موقف نعيم قاسم عندما أشار إلى اتخاذ قرار الصبر وما يمليه ذلك من تغير الأساليب والتكتيكات.
ثانيا، الاعتراف بالهزيمة في هذه الحرب والتقصير والانكشاف الأمني ووجود خروقات تقنية وبشرية وسحب سردية الانتصار ولو بأدبيات مواربة. إذ أن قاسم والموسوي لم يشيرا إلى الانتصار كما جرت العادة منذ وقف إطلاق النار، بل تحدثا عن ضربة تعرض لها المحور وأذية لحقت بالمقاومة وأنها بحاجة لإعادة ترميم قدراتها.
ثالثا، تراجع حزب الله عن معادلة الرد على إسرائيل، فالضربة لن تقابل بضربة بعد الآن. فالأمين العام للحزب تحدث عن دور الدولة في مواجهة الخروقات لاتفاق وقف إطلاق النار. رغم أن الموسوي كان قد أقر قبله بإنشاء إسرائيل حزاما أمنيا عازلا في جنوب لبنان وأن الأمر لم يعد إنشاء 5 نقاط مراقبة داخل الأراضي اللبنانية، لكنه أكد أن استخدام السلاح مرة أخرى متروك للوقت الذي يرى فيه الحزب أن الفرصة سانحة.
رابعا، إجراء مراجعة على مستوى الإقليم ولو تطلبت فتح قنوات اتصال مع الإدارة السورية الجديدة. فالموسوي دعا صراحة إلى التعامل مع دمشق والتعالي على الخلافات لمواجهة مشاريع التقسيم خصوصا مع وصول التوغلات الإسرائيلية إلى درعا. لكن الخطير هنا أيضا، ورغم نفي قاسم أي دور حاليا في سوريا، ألمح إلى عدم استبعاده قيام مقاومة هناك. وتزامن ذلك مع نشر وكالات إيرانية بيانا منسوبا لما سمي بجبهة المقاومة الإسلامية في سوريا والتي تحمل شعار “أولي بأس” وهو الشعار نفسه الذي أطلقه نعيم قاسم على معركتهم الأخيرة مع إسرائيل. كما تزامن ذلك مع نفي حزب الله أي دور له في أحداث الساحل السوري.
انكفاء درة التاج الإيرانية
إذن، ينكفئ دور حزب الله درة التاج في حلقات النار الإيرانية إلى دور محدود على المستويات الثلاثة الموكلة إليه. فهزيمته في الحرب وابتعاده عن الحدود بفعل اتفاق وقف إطلاق النار أفقده “المسافة صفر” في المواجهة، إذ أن المسيرات الإسرائيلية لا تتوقف عن استهداف كوادره ليس في جنوب الليطاني فحسب بل حتى في أقصى شمال شرقي لبنان. كما أن الحزب بخسارة “سوريا الأسد” الحلقة الذهبية في محور المقاومة، فقد طريق الإمداد وقدرته على القيام بدوره الإقليمي في سوريا والعراق على الأقل. أما على مستوى الداخل اللبناني، فأثبت انتخاب جوزيف عون رئيسا للجمهورية وتكليف نواف سلام برئاسة الحكومة فقدانه القدرة على تعطيل مشاريع منافسي إيران الإقليميين والدوليين في الساحة اللبنانية.