في مشهد من خارج الحسبان ظهر الرئيس السوري أحمد الشرع مصافحا رئيس قوات سوريا الديمقراطية “قسد” مظلوم عبدي ليلعنا التوقيع على اتفاق يقضي بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق البلاد ضمن إدارة الدولة بما في ذلك المعابر ومطار القامشلي وحقول النفط والغاز.
وأعتقد أن هذا الحدث المهم في تاريخ المرحلة الانتقالية السوري يعكس من حيث الشكل قبل المضمون قدرة الرجلين على فهم الواقعية السياسية وقراءة المتغيرات ومقاربة الملفات الشائكة ببراغماتيكية عالية تجنبا للحلول الخشنة والصدام. إذ أن أي معركة من أجل المعركة ولا تؤسس لحل سياسي مستدام مصيرها الاستنزاف والفشل في النهاية. فالجنرال والمؤرخ العسكري البروسي كارل فون كلاوفيتز كان يحرص على أهمية المعركة كتكتيك لتحقيق الاستراتيجية أي الغاية والهدف الأكبر من الحرب.

تنازلات شكلية تعكس جوانب خلافية
قبل الخوض في قراءة مصالح الطرفين والتحديات أمام الاتفاق، لا بد لي أن أتوقف في الشكل عند تنازلات مشتركة من الجانبين. فالجنرال عبدي، كما يحب أن ينادى، قبل بتوقيع الاتفاق بوجود علم الدولة السورية فقط وفي قصر الشعب، لكنه في المقابل جلس رأسا مقابل رأس مع الشرع ووقع معه الاتفاق لا مع وزير الدفاع مثلا، في مشهد يعطيه الحالة الندية مع رئيس الدولة. وبالتزامن مع ذلك، أصدر “مجلس سوريا الديمقراطية” بيانا وصف فيه التوقيع بأنه بين قائد قوات سوريا الديمقراطية و”السلطة الحاكمة في دمشق” قبل أن يستبدلها بـ”الرئيس أحمد الشرع” دون الإشارة إلى صفته رئيس ماذا؟
ومن حيث الشكل أيضا، إذا دققنا في وثيقة الاتفاق لوجدنا أن كلا منهما كتب صفته بخط يده كونها غير مطبوعة في الوثيقة، مما يعني ذلك أن عبدي لا يريد أن يسجل على نفسه اعترافا رسميا بشرعية أحمد الشرع وكذلك صفته “رئيس الجمهورية العربية السورية”، التي يطالب عبدي بحذف “العربية” منها.
إذن ما الذي دفع الرجلان إلى توقيع هذا الاتفاق؟
يبدو أن قائد “قسد” طار في مروحية شينوك الأمريكية من الحسكة إلى دمشق محملا بضغوط فرضتها تطورات داخلية في سوريا وأخرى إقليمية ودولية ومراجعة للتجربة الكردية السورية من خلال 5 عوامل:
الأول، تنبع حاجة “قسد” من هذا الاتفاق بعد الضغوط الأمريكية عليها لا سيما منذ فبراير الماضي وصولا إلى زيارة قائد المنطقة الوسطى الجنرال مايكل كوريلا قبل يومين للحسكة ولقائه بمظلوم عبدي وإبلاغه بأن الحديث عن نية الرئيس دونالد ترمب سحب القوات الأمريكية من سوريا أمر جدي هذه المرة، وبالتالي على “قسد” ترتيب أمورها مع السلطات في دمشق. وهذا الأمر أثار مخاوف عبدي إلى درجة أنه تمنى ألا يقابل بخيانة أمريكية على الأقل في مقابل ما قدمته قواته للأمريكيين من موطئ قدم في شمال سوريا إضافة إلى كونها رأس حربتهم في قتال تنظيم الدولة.
ثانيا، قراءة “قسد” للمتغيرات الإقليمية بعد دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان أنصاره إلى إلقاء السلاح والتخلي عن الأحلام الانفصالية والإدارة الذاتية. ويأتي موقف أوجلان في ظل التأسيس على مسار سياسي كردي في تركيا ينهي أكثر من أربعين عاما من القتال بين التنظيم المصنف إرهابيا والدولة.
ثالثا، فهم “قسد” للسياقات الدولية بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض وعلاقة المصالح المتنامية بين الإدارتين في واشنطن وأنقرة، لا سيما أن المسؤولين الأتراك يشددون في أي اجتماع مع الجانب الأمريكي على خطورة حزب العمال الكردستاني على أمنهم القومي وامتداداته في سوريا.
رابعا، استخلاص “قسد” للدروس من قدرة الدولة السورية على تصديها بحسم وسرعة لمحاولة الانقلاب في الساحل وعدم صمود فلول النظام لأربع وعشرين ساعة، وإلا لكانت هناك متغيرات ميدانية في الخريطة السورية تعزز من مسار التقسيم. ويدرك قادة “قسد” وأولهم عبدي أن المواجهة قرار انتحاري خصوصا أن الأتراك من خلفهم وقوات الشرع من أمامهم والأمريكيون يقتربون من المغادرة.
خامسا، إدراك “قسد” أن تجربة الإدارة الذاتية ولو أنها حققت جانبا من الخصوصية الاجتماعية والثقافية خلال حوالي عشر سنوات لكنها تجربة مرهقة ومكلفة للسيطرة على هذه المساحة الشاسعة التي تقدر بثلث سوريا ورعايتها فضلا عن وجودها في محيط معاد لها. فما قيمة السيطرة على حقول النفط إذا كان تصديره سيخضع لسوق التهريب السوداء أو بيعه مجددا للحكومة المركزية. وقد عبر عبدي بنفسه عن ذلك بالتأكيد ألا تكرار لتجربة كردستان في سوريا.
أما الرئيس أحمد الشرع الذي تعكس ملامح وجهه وعينيه تعبا وتوجسا من مخططات الداخل قبل الخارج، فسعى من الاتفاق إلى تحقيق مكاسب وإيصال رسائل مختلفة أهمها:
أولا، القضاء على أي أحلام انفصالية أو فدرالية بعد إنهاء هذا الاتفاق مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا. وقد انعكس ذلك، بتسريع الاجتماعات مع وجهاء وفصائل السويداء بهدف دمج مؤسسات المحافظة ضمن الدولة وتفعيل الأمن العام والجيش فيها، في وقت تتزايد فيه التصريحات الإسرائيلية التي تخطب ود أبناء المحافظة من خلال التعهد بحمايتها وفتح سوق العمل في الجولان المحتل أمام سكانها.
ثانيا، استعادة ثلاثين في المئة من مساحة البلاد بما فيها من ثروات ومقدرات ومعابر استراتيجية دون قتال كان يمكن أن يتحول إلى صدام إقليمي. والشرع قبل غيره بغنى عنه كونه ما لبث أن أنهى معركة ردع العدوان وإحباط محاولة انقلاب الساحل.
ثالثا، التغطية السياسية داخليا وخارجيا على ما جرى من انتهاكات طائفية في الساحل وضعت إدارة الشرع في مأزق كبير وفي مواجهة عاصفة من الإدانات الدولية.
اتفاق أم إعلان نوايا
لكن يبدو أن الاتفاق ليس كاملا وهو أقرب لإعلان نوايا، وأستند في ذلك إلى جملة من المعطيات تتلخص في الموقفين التاليين:
أولا، المواقف التي صدرت عن فرهاد شامي المتحدث الرسمي باسم “قسد” لجهة نفيه انتشار قوات الأمن العام والجيش داخل الحسكة أو على الحدود التركية والعراقية، إضافة إلى التأكيد على عدم وجود أي متغيرات في ملف قتال تنظيم الدولة الإسلامية وحقوق النفط. وشامي أوضح أن الهدف من الاتفاق هو وقف الحشود التركية على الحدود والبحث في إعادة النازحين من الكرد إلى قراهم لا سيما في عفرين ورأس العين وتل أبيض.
ثانيا، رغم إقرار عبدي في حواراته الإعلامية على التسليم بتوحيد العاصمة والمؤسسات والجيش والعلم لكنه أشار إلى الحاجة للنقاش واستمرار التفاوض بشأن آليات التنفيذ والتوقيت. كما أنه ربط مغادرة المقاتلين الأجانب أي التابعين لحزب العمال الكردستاني بإقرار وقف دائم لإطلاق النار.
شيطان التفاصيل بين الشرع وعبدي
لكن هل فعلا تخلى مظلوم عبدي عن حلم الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا أو ما يعرف بالأدبيات الكردية السياسية “روج آفا”؟ يبدو أن ما تفرضه المعادلات الداخلية والخارجية في سوريا إضافة إلى البراغماتيكية لدى عبدي ستجعله لا يجد حرجا في أن يكون زميل مؤسسة عسكرية واحدة مع قائد فرقة السلطان سليمان، المدعومة من تركيا، محمد جاسم “أبو عمشة”، رغم أن بين الرجلين ما صنع الحداد وثأر طويل.
من حيث المبدأ تم توقيع الاتفاق ببنوده الثمانية كخطوط عامة تسترشد فيها اللجان التنفيذية في عملية التطبيق التي لا يجب أن تتجاوز نهاية العام 2025. وهذا يثير مخاوف من ذلك الشيطان الكامن في التفاصيل في ضوء تصريحات فرهاد شامي ومواقف عبدي المشار إليها.
وعلى أية حال، تشير عملية توقيع الاتفاق بشكل أو بآخر إلى أن كلا الطرفين يريد أن يظهر الآن بمظهر المنتصر، لكن على ما يبدو أن لكل منهما لاحقا خطته الخاصة للتعامل مع الاتفاق وتفسيراته وتأويلاته لبنوده مما يؤكد أن في عالم السياسة لا تؤخذ الأعمال بالنيات.