ما إن سحقت الحكومة السورية الجديدة محاولة الانقلاب في الساحل، وأنهت بالتفاوض أحلام الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، حتى هبت عليها رياح المجهول القادمة من الجنوب، وتحديدا من محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية. وتزامن هبوبها مع التهديدات الإسرائيلية بإقامة منطقة عازلة جنوب البلاد مصحوبة بغارات وتوغلات تجاوزت محافظة القنيطرة وبلغت ريف درعا.
وعلى قاعدة جادلهم بالتي هي أحسن، كلفت الحكومة السورية محافظ السويداء على إجراء حوار مع مشايخ العقل ووجهاء المحافظة، وتوصلوا إلى ورقة تفاهم حملت توقيع الشيخ حكمت الهجري أحد مشايخ العقل الثلاثة والأكثر بروزا وتأثيرا بينهم. لكن سرعان ما ظهر للهجري تسجيل ينفي فيه وقوع اتفاق أو توافق مع “الحكومة في الشام”، ووصفها بأنها “حكومة متطرفة بكل معنى الكلمة ومطلوبة للعدالة الدولية”. وتضمنت مواقف الهجري المفاجئة، خصوصا أنها تأتي بعد توقيع وثيقة التفاهم في منزله، اتهاما لشباب الطائفة الدرزية ممن انتقلوا إلى جانب الحكومة بأنهم “يبيعون كرامة وتاريخ ودم أهلهم”، في إشارة إلى حركة رجال الكرامة المؤيدة للحكومة.

هل السويداء على قلب رجل واحد؟
أعتقد أن الأزمة الحالية في جبل الدروز لا تنفصل عن تاريخ الطائفة الممتد منذ قرون والحافل بالانقسامات. ونستطيع تحديد الانقسام الحالي في السويداء بكل وضوح في 3 تيارات تتناقض في تطلعاتها وأهدافها:
التيار الأول الذي كان على اتصال وتنسيق مع نظام الأسد المخلوع حتى سقوطه ويمثله الهجري المدعوم من المجلس العسكري في السويداء المشكل حديثا. ويسعى هذا التيار إلى مشاركة حقيقية وتمثيل للطائفة في عملية صنع القرار المركزي في دمشق في حكومة علمانية، ومنح السويداء لا مركزية موسعة لتنظيم شؤونها، إضافة إلى إيجاد تسوية لفلول النظام من أبناء الطائفة تحميهم من المحاسبة وتحقن دمائهم. هذا فضلا عن الاهتمام بالمحافظة من الناحية الإنمائية والخدماتية كونها تعاني كسائر المحافظات من تهميش عمره عقود من حكم الأسدين.
التيار الثاني الذي يمثله ثوار المحافظة ضد نظام المخلوع والمؤيد للدولة الجديدة ورئيسها أحمد الشرع. ويستظل أنصاره بمواقف شيخي العقل الآخرين حمود الحناوي ويوسف الجربوع التي تعترف بالشرع رئيسا وتدعمه. وينعكس ميدانيا في تأييد حركة رجال الكرامة ومقاتليها بقيادة الشيخ ليث البلعوس وسليمان عبد الباقي وباسم أبو فخر الذين يشرفون على دمج مؤسسات المحافظة لا سيما الأمنية في الدولة. ويستند هذا التيار أيضا إلى الحراك المدني العلماني في السويداء الذي قاد الثورة فيها ضد نظام الأسد.
التيار الثالث الذي يتطلع إلى الحماية الإسرائيلية وهو على تنسيق مباشر مع رئيس الطائفة في إسرائيل الشيخ موفق طريف. ويهدف هذا التيار إلى استجلاب غطاء أمني إسرائيلي مصحوب بتقديمات خدماتية وإنمائية وفرص عمل لآلاف من أبناء الطائفة في مرتفعات الجولان والجليل، وفتح الحدود لهم لزيارة المقامات الدينية. ويطمح أنصار هذا التوجه في النهاية لضم إسرائيل لهم كما هو الحال في الجولان، كونهم يتكونون من أصوات متطرفة داخل الطائفة تثير الرعب من الخلفيات الجهادية للحكام الجدد وترى في تحالف الأقليات في المنطقة مظلة تحفظ وجودها وتحميها من عمليات ثأر أو مساءلة. وللمفارقة فإن التيار الثالث هذا تخيم على وجوهه فلول النظام الأمنية والسياسية التي كانت ترفع شعارات المقاومة والعداء لإسرائيل.
شقاق لحفظ وجود الطائفة
قد يبدو مما سبق أن وحدة الطائفة على المحك وأنها على وشك الغرق في مستنقع من الاقتتال الداخلي. وقد يستحضر البعض التاريخ الدموي بين أبناء الطائفة الذي ارتكز على الصراع القيسي اليماني والذي انتهى بمعركة عين دارة نهاية القرن الثامن عشر بظفر القيسيين في مناطق جبل لبنان ورحيل اليمانيين إلى جبل العرب في السويداء. وسرعان ما انقسم القيسيون على أنفسهم في صراع جنبلاطي يزبكي مستمر حتى اليوم في التنافس على زعامة الطائفة الدرزية في جبل لبنان سياسيا ودينيا.
لكن رغم التباينات الحالية بين أبناء السويداء، أعتقد أن المخاوف من إعادة التاريخ لنفسه أمر مبالغ فيه. إذ أستطيع القول إنه في بعض الأحيان لا سيما في فترات الاضطراب والخوف من المجهول حفظت هذه الانقسامات وجود الطائفة منذ مئات السنين رغم كونها أقلية مذهبية على خلاف عقائدي مع محيط من المسلمين السنة والشيعة. فالانقسام في صفوف الطائفة حيال أي قضية يعني حكما خلق اصطفاف مع طرفي الصراع فيها، وبانتصار أحد الطرفين يفوز معه قسم من الدروز الذي يشفع للقسم الآخر المنضوي في صفوف الطرف المهزوم.
وقد أثرت الانقسامات السياسية أيضا بالجانب الديني أيضا بحيث خيم على تاريخ الطائفة وجود أكثر من مرجعية دينية تظلل شرعيا هذا التيار أو ذاك.
لكن في فترات الاستقرار الواضحة وهيمنة منتصر ما على المشهد السياسي لفترة طويلة يتحد الدروز في ظلها، وكأنهم الشريك المنفصل للفئة الغالبة، وينظمون خلافتهم ليس حقنا للدماء فحسب بل أيضا لتحقيق حضور أكثر فعالية وجني مكاسب أكبر. ويمكن الاستدلال إلى تجربة الشيخ أمين طريف جد الشيخ موفق في إسرائيل، أو حضور الدروز في سوريا خلال عهد الأسدين، وكذلك دورهم في لبنان منذ ما بعد اغتيال كمال جنبلاط إلى صدور القرار الدولي 1559 في 2004.
دروز السويداء بين 3 خيارات
وبرأيي فإن الدروز اليوم على مفترق طرق لتحديد مستقبل الطائفة في سوريا وفي المنطقة، فالحالة المذهبية مترابطة وعابرة لحدود سايكس بيكو بين الجليل وجبل لبنان والسويداء. وبذلك، أرى أن هناك 3 خيارات تلوح في الأفق لأي طريق قد يسلكه دروز سوريا:
الخيار الأول وهو انتحاري انتهجه الشيخ أمين طريف في الثلاثينيات بدمج الطائفة كحالة قومية مستقلة بذاتها ضمن الدولة الإسرائيلية ليصبح أبناؤها مواطنين إسرائيليين وكأنهم ليسوا عربا أو فلسطينيين رغم ما يتهددهم من قانون يهودية الدولة الذي أقر في إسرائيل. وبذلك يكون الشيخ أمين قد كرس استبدال الدروز للمحراث الفلسطيني بالبندقية الإسرائيلية. وأعتقد أن دروز سوريا رغم الأصوات المتطرفة لن يسلكوا هذا الطريق الذي يتعارض مع تاريخهم وتراثهم الوطني والعروبي.
الخيار الثاني أكثر تقدمية ورومانسية وجرأة أسسه كمال جنبلاط في لبنان بإخراج الطائفة من عزلتها إلى حالة قومية تتفاعل مع محيطها والعالم من خلال تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي وترؤسه للحركة الوطنية الداعمة لمنظمة التحرير الفلسطينية في وجه الجبهة اللبنانية الانعزالية التي تحالفت مع إسرائيل. وهذا الخيار اليوم ليس واقعيا على الإطلاق لأسباب ومتغيرات داخلية سورية وإقليمية وحتى دولية.
الخيار الثالث الأكثر تعبيرا عن الحالة السورية والمستمد من تاريخ الزعيم سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة العربية في وجه الانتداب الفرنسي والذي رفض فكرة فصل جبل الدروز عن سوريا وإنشاء دولة درزية. فالأطرش ابن نهج لا يرى تعارضا بين مصلحة الطائفة الذاتية ومصلحة الوطن الأكثر تعددية. وأعتقد أن هذا الخيار هو المتوسط الذهبي بين التمايز الانعزالي والتعايش الذوباني. ورغم مخاوف الدروز من تكرار أحداث 2015 في بلدات القنيطرة، لا سيما بلدة حضر، عندما اقتحمتها فصائل معارضة حينها، إلا أنه أيضا لا يمكن تعميم فعلة تلك الفصائل على مؤسسات الدولة التي يقودها الشرع اليوم خصوصا أنها تنطلق من تجربة ناجحة في حماية دروز جبل السماق بريف إدلب واحترام خصوصيتهم، إبان سيطرة هيئة تحرير الشام على المحافظة.
لا أظن أن الدولة السورية اليوم عاجزة عن إيجاد ما يطمئن دروز السويداء. فوصفة الأقليات معروفة وتقوم على ضمان حفظ وجودها واحترام خصوصيتها ورفع التهميش التمثيلي السياسي والخدماتي عن وجهائها ومناطقها. ومن استطاع حسم محاولة انقلاب الساحل وتشكيل لجنة للسلم الأهلي من أبناء المنطقة، واستعادة ثلثي مساحة سوريا شمال شرق الفرات بالتفاوض نظريا حتى الآن، لن يكون قاصرا على احتواء السويداء وحمايتها من الأطماع التوسعية الإسرائيلية.