14 عاما على ثورة الحرية والكرامة.. حذار من فشل العبور إلى سوريا الدولة 

بعد 14 عاما نحتفل اليوم بالمستحيل بسقوط نظام الأسد. سقط هذا النظام بعد أن تملكني شعور الهزيمة حالي حال الآلاف ممن شاهدوا كيف كان يرحل الجميع ويبقى الأسد.

ولأن محاولة الاحتجاج في ظل نظام الأسد معجزة لا تصدق مثلما جرى في سوقي الحريقة والحميدية الدمشقيين في مثل هذه الأيام بين 17 فبراير و15 مارس 2011، فإن الثورة على هذا النظام من درعا في 18 مارس وسقوط أول شهيد في “جمعة الكرامة” كانت فعلا أسطوريا بحق. فما بالنا بانتصارها من إدلب بعد 14 عاما من التضحيات والعذابات والدماء واللجوء والجوع والاعتقال والهزائم والتهجير وكلمات أخرى تعجز عن وصف الواقع، أو المعاجم عن صك مثيلاتها للتعبير عن البؤس والشقاء. 

الثورة أسهل من الحكم

ولأن ثورة “الحرية والكرامة” عزيزة علينا وثمارها أعز وأثمن لا بد من الخوف على مرحلة ما بعدها. إذ أن مرحلة الثورة على صعوبتها قد تكون أسهل ربما من الحفاظ عليها كمنجز تاريخي في مرحلة بناء الدولة. ففي السياسة دائما يقال إن المعارضة أسهل من الحكم، وكذلك ربما في الثورة حيث يكون الهدف الاستراتيجي إسقاط الطاغية لا إدارة حكومة ومؤسسات وقيادة شعب من مختلف المكونات. 

قد تكون “تجربة إدلب” نموذجا صغيرا محدودا ناجحا لكنه لا يبنى عليه في إدارة المرحلة في بلد شديد التعقيد الديموغرافي والجيوسياسي. هذا عدا عن معاناة مختلف مناطقه من عقود من التهميش والإهمال والإفقار، لتكشف مرحلة ما بعد سقوط النظام عن ترهل كبير في البنية التحتية جعل من العاصمة دمشق مثلا مدينة توقفت فيها عقارب الساعة في خمسينيات القرن الماضي.

“مات الملك عاش الملك”

أكثر من ذلك، ماذا عن نفوس السوريين، ماذا عن التجريف الثقافي والفكري الذي تعرضوا له خلال أربعة وخمسين عاما. فما لبث أن سقط الأسد حتى أقدم البعض على رفع صور الرئيس الجديد أحمد الشرع “مات الملك عاش الملك”. ورغم أن الشرع أمر بمنع هذه الظاهرة، إلا أن ألسنة “المنحبكجية الجدد” متأهبة لتبرير أي فعل هنا أو الدفاع عن أي خطأ هناك. 

وماذا عن أولئك الذين عبروا عن صدمتهم لرؤية رجال الأمن يرفضون الرشوة أو يدفعون مقابل ما يأخذون، أو يبتسمون للمارة ولا ينهرونهم، أو حتى عندما تصيبهم تلك السيارات الحديثة القادمة من إدلب بالدهشة وكأنها أنها آتية من كوكب آخر. فعلا إن السوريين اليوم لا سيما الذين كانوا في مناطق سيطرة النظام يشهدون تحرك عقارب الساعة من جديد.

النار تحت الرماد

لكن هذه الساعة ولظروف لا يمكن حصرها تتحرك ببطء والناس لا يمكنها أن تنتظر. وكل منهم له مطالبه وإرضاء الجميع غاية لا تدرك. فلا الحوار الوطني حظي بإجماع ولا بالطبع الإعلان الدستوري نال بركة الجميع. ورغم توقيع الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية ومحاولات التفاهم مع أهالي السويداء إلا أن نار الخلاف لا تزال تحت الرماد. أما أحداث الساحل فلا تزال جروحها تنزف رغم محاولات تضميدها في الداخل واحتواء تبعاتها في الخارج لا سيما وأن البعض حولها لورقة ضغط في عواصم غربية ومحافل دولية لمنع رفع العقوبات الدولية عن السوريين. وبين هذه الأزمة وتلك، مواطن سوري ينظر إلى رزمة من الأموال لا قيمة لها ولا تكفيه لإعالة أسرته أسبوعا كاملا بفعل انهيار العملة وتضخم الأسعار. 

ما الحل إذن؟ 

مثلما أن المعارضة أسهل من الحكم، فإن التنظير أسهل من الفعل. هذا هو الواقع الذي لا مهرب منه. لكن كما أنه لا غنى عن المعارضة فلا غنى عن التنظير أيضا.

لذا أعتقد أن على الرئيس أحمد الشرع اليوم، بشرعيته الثورية والدستورية الممتدة لخمس سنوات، أن يبادر هو لا غيره إلى إجراء حوارات وطنية جامعة تشمل كل مكونات السوريين من الأكثرية والأقليات. وإن تطلب الأمر منه شخصيا أن يزور مرجعيات ووجهاء المناطق فليفعل، وهو الذي اشتهر بجولاته على بلدات وقرى إدلب خلال إدارته لها، ويشهد دفتر ملاحظاته على تدوينه لمئات المطالب التي قضاها والمظالم التي ردها.

يصعب النوم في منزل لا يضمن أمنه، فما بالنا بمنزل مخلعة أبوابه ومشرعة شبابيكه، وفي كل غرفة يحيك شاغلوها مشروع الانفصال بها كشقة جديدة. يمكن فرض الطاعة بالترغيب والترهيب لكن من يضمن صفاء النوايا، فما قيمة الاتفاقيات والعهود إذا كانت تنتظر اللحظة المناسبة لنقضها أو النكث بها.

تضحيات المنتصر.. لا إقصاء ولا استئثار

أثبت الشرع خلال سنوات تحولاته قدرته الهائلة على تنظيم الخلافات وإدارتها من تلك العقائدية الفكرية إلى العسكرية والسياسية. ولولا تلك العقلية البراغماتيكية النفعية لما استطاع خرق النظام عبر كبار رجالاته وتحقق النصر وسقط النظام بأقل كلفة ممكنة. فهل يعقل اليوم أن يبذل في مرحلة ما بعد الثورة دماء وأثمان أكبر؟

لا أظن أن نسج الخطوط المقطوعة ورقع الخريطة السورية أمر يصعب على الرئيس السوري وأمناء سره ومعاونيه الأقربين. فالتعافي من تركة النظام البائد وبناء الدولة يتطلب تضحيات وتنازلات من المنتصر، رغم شرعيته الثورية، لا تشعر الآخرين بإقصائهم أو تولد لديهم شعورا باستئثاره بالقرار.

لقاء اليد الممدودة في منتصف الطريق 

لا يعني ذلك مطلقا تخلية ساحة الأطراف الأخرى من المسؤولية الوطنية والتاريخية للقاء في منتصف الطريق ومد اليد إلى اليد الأخرى الممدودة. فقد أثبت السنوات الماضية أن الرهان على دعم خارجي من هنا أو هناك تنتهي مفاعيله بتحقيق الطرف الخارجي لمصالحه الوقتية، فها هم الأمريكيون على وشك الرحيل من شمال شرقي البلاد، وكذلك الروس يطردون من احتمى من السوريين بقاعدتهم في حميميم ويفكرون جديا بمغادرتها. أما الرهان على حماية إسرائيل، دولة اليهود القومية قانونا، فلا مكان فيها لغير اليهود إلا في مراتب الدرجة الثانية والثالثة. وليُسأل سكان إسرائيل من فلسطينيي داخل الخط الأخضر عن أحوالهم، وبينهم الدروز الذي يزجون في معارك الجيش ويمنعون من ترخيص لبناء منزل.

الرهان على العبور إلى الدولة

سقط النظام ولم تسقط التحديات والأنظار كلها اليوم على التجربة السورية بعد إخفاقات ثورات الربيع العربي سواء بسبب أخطاء وقع فيها المنتصرون أو ثورات مضادة تآمرت فيها وجوه الدولة العميقة لحماية مصالحها. فالرهان اليوم على نجاح السوريين في مرحلة العبور إلى الدولة لأن به سيقاس نجاح الثورة من عدمه. فما النصر العسكري إلا بداية، وما حمل السلاح إلا أداة حققت هدفها وليس الغاية.

أضف تعليق