المقال منشور في “القدس العربي” بتاريخ 18 مارس 2025
لخصت المشادة الحادة في المكتب البيضاوي بين الرئيس الأوكراني زيلينسكي منفردا مقابل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس، كيفية مقاربة الإدارة الأمريكية لسياستها الخارجية. ومثلما أحدثت ذهولا وصدمة حول العالم، قرعت أجراس الإنذار في مقر المفوضية الأوروبية، وعلى بعد كيلومترات في مقر حلف شمال الأطلسي، للتحذير من أن القارة العجوز ستكون منفردة أيضا بلا ظهيرها التاريخي وأن الحلف سيصبح بلا عموده الفقري.
أما ترامب فلا يمانع طبعا من الاستحواذ على عائدات ضخمة تصل 500 مليار دولار من الثروة المعدنية الأوكرانية النادرة، ولو كان ذلك على حساب تخلي كييف عن أراضي ما قبل عام 2014، أي القرم ومناطق في شرقي البلاد. وكم يشبه ذلك مقاربته أيضا للشرق الأوسط، حيث يسعى لأفضل الصفقات والاستثمارات مع دول الخليج، لاسيما السعودية بقيمة تريليون دولار، لكنه في المقابل يريد من العرب التنازل حتى عما تبقى من حدود 1967 وتسليمه غزة لإقامة منتجعات والشروع في تطبيع مجاني مع إسرائيل، بلا أي ضمانات أيضا.

تراجع العولمة مقابل طروحات الانعزال
بالنسبة لترامب فإن سياسته تقوم على مبدأ «أمريكا أولا» وهو يعني ذلك حرفيا الداخل الجغرافي بين المحيطين، إذ «يريد قضاء وقت أقل في القلق بشأن بوتين، والمزيد بشأن عصابات المهاجرين والمغتصبين وزعماء المخدرات.. حتى لا ننتهي مثل أوروبا». يستند ترامب في ذلك إلى «محيط كبير يفصلهم عنا»، مثل نائبه فانس الذي كان يقول سابقا، إنه لا يكترث لما يجري على بعد آلاف الأميال في أوكرانيا. ويؤشر ذلك إلى أنهما ما زالا حبيسي فترة ما قبل الهجوم الياباني على بيرل هاربر، أو حتى الحرب الباردة والستار الحديدي. إذ أننا نشهد اليوم زمن ستار السيليكون وسباق التسلح في الذكاء الاصطناعي، خاصة مع الصين، حيث إن خوارزمية بسيطة يمكن أن تتسبب بشل الحياة العامة والبنية التحتية في الولايات المتحدة، أو تحدث كارثة نووية في العالم.
من الـ”MAGA” إلى الـ”MEGA”
أدت عودة اليمين المحافظ إلى المشهد السياسي، إلى تراجع مفاهيم وقيم العولمة وتكريس حالة انعزالية يعبر عنها شعار «لنجعل أمريكا عظيمة مجددا»، أو «MAGA»، وما يقتضيه ذلك من الانسحاب من منظمات أممية ومعاهدات دولية والانصراف للمنفعة الذاتية على حساب المصلحة العامة. وبرأيي فإن الأخطر من ذلك أن تتحول MAGA إلى مشروع تبشيري في العالم، في مواجهة تيار «اليقظة WOKE» الليبرالي التقدمي. وبذلك ترتدي وجوه مسؤولي الإدارة الأمريكية لباس الرسل الذين ينشرون التعاليم أينما حلوا. ففي مؤتمر ميونيخ للأمن منتصف فبراير الماضي، ألقى نائب الرئيس فانس «موعظة» أثارت الحذر والجدل بين الأوروبيين في آن، خصوصا دعوته
إلى تبني طروحات «MAGA» من خلال استحداثه شعار «لنجعل أوروبا عظيمة مجددا MEGA». وعكست توصيات فانس عقيدة إدارة ترامب اليمينية الشعبوية المتخوفة من مصير أوروبا، الذي يتخوف منه، وذلك من خلال 5 أركان:
الأول، دعوة أوروبا إلى الاعتماد على نفسها في مسألة الدفاع.
الثاني، اتهام الأوروبيين بالمبالغة في التركيز على مخاطر خارجية من الصين وأمريكا.
الثالث، انتقاد السياسات الأوروبية التي تضيق على أصوات المحافظين والشعبويين، داعيا إلى إزالة جدران النار بينهم، ومدللا إلى حزب البديل الألماني اليميني المتطرف، وهو الحزب المعادي للمهاجرين والمسلمين.
الرابع، عدم مقاربة قضية المهاجرين في أوروبا على أنها الأكثر إلحاحا، والاهتمام بقضية أوكرانيا.
الخامس، الشقاق الأيديولوجي مع الولايات المتحدة، لاسيما لجهة تفشي القيم الليبرالية التقدمية في أوروبا، من خلال قضايا المثليين والتنوع والمساواة والاندماج، مقابل تراجع القيم المحافظة ومؤسسة العائلة ونسبة المواليد. والحالة التبشيرية هذه تجاوزت أوروبا، حيث انسحبت على جدول أعمال مؤتمر العمل السياسي المحافظ CPAC الذي انعقد بعد أقل من أسبوع في العاصمة واشنطن. وتكررت التوصيات ذاتها بحضور ضيوف الشرف، والميول اليمينية الشعبوية مثل الرئيس الأرجنتيني خافيير مايلي ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تراس ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني ونجل الرئيس البرازيلي السابق إدواردو بولسونارو، وتوجيه الدعوة بالطبع لرئيس وزراء المجر فيكتور أوربان.
الشعبوية اليمينية والنظام العالمي الجديد
أعتقد أن عودة ترامب الثانية تؤسس لانتشار أوسع لمفهوم الشعبوية السياسية كنظام سياسي يرتكز إلى استخدام الزعيم القائد أدوات الديمقراطية، وثغرات الدستور للقيام بممارسات سلطوية. ويأتي صعود هذا التيار بعد عقود من هيمنة الديمقراطية الليبرالية على النظم السياسية العالمية، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، ما يفتح المجال لتأسيس نظام سياسي جديد لا يقوم على المؤسسات بقدر الأشخاص والعلاقة بينهم. لذا نجد أن ترامب يميل لمن يشاركونه الطباع السلطوية المتمردة على المؤسسات الديمقراطية ولو كانت جذورهم نازية أو فاشية أو شيوعية أو حتى مافيوية!أمريكا في عهد ترامب لن تقوم بقيادة «العالم الحر» بالمجان بعد الآن، فالحلفاء في عينيها أعباء لا ينفقون ما يكفي، والذي يجلس خلف مكتب البيت الأبيض في واشنطن لا يزال يظن نفسه يبرم الصفقات ويصدر الأوامر من مقر «منظمة ترامب» في برجه الفاره في الجادة الخامسة من مانهاتن في نيويورك.
وقد استشعر الأوروبيون الخطر منذ ارتفاع حظوظ المرشح الجمهوري في الفوز بالانتخابات، لكنهم فوجئوا أن يكونوا هم الضحايا في لعبة الروليت الروسية بين ترامب والرئيس فلاديمير بوتين، خصوصا أن عدم وجود ضمانات أمنية لأوكرانيا وأوروبا من أي اتفاق سلام مثل من يشتري السمك في بحر آزوف.إذ أن سيد الكرملين لا يؤتمن، أو يمكن توقعه من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا إلى القرم ودونيتسك ولوغانسك في شرقي أوكرانيا، وصولا إلى سوريا وليبيا، ثم دول جنوب الصحراء الافريقية حيث ينتشر نفوذه وتسرح مرتزقة فاغنر على حساب النفوذ الأوروبي لاسيما الفرنسي.