عندما يواجه الناس انسدادا في الأفق السياسي والدستوري والقضائي لا يبقى أمامهم سبيل سوى اللجوء إلى العصيان لإنذار السلطة بحالة غضب تعتريهم ومطالب يسعون لتحقيقها. هذا هو المشهد هذه الأيام في الولايات المتحدة الأمريكية حيث انطلقت منذ منتصف فبراير الماضي حملة “تخلى عن تيسلا” الداعية لمقاطعة سيارات تيسلا في محاولة للضغط على الشركة التي يملكها إيلون ماسك رئيس إدارة الكفاءة الحكومية المسؤولة عن تسريح أكثر من 60 ألف موظف حكومي.

اقتناء تيسلا وصمة عار
وسرعان ما تحولت هذه الحملة التي أطلقتها الناشطة الأمريكية فاليري كوستا من مدينة سياتيل إلى موجة من أعمال العنف والتخريب استهدفت سيارات ومعارض بيع تيسلا من خلال إشعال النيران فيها أو تحطيمها ورسم شعارات عليها مثل “قاوم” وأخرى مهينة لماسك ودونالد ترمب. وانتشرت هذه الحملة في أكثر من 9 ولايات حتى الآن وتجاوزت المحيط الأطلسي وصولا إلى مدن أوروبية مثل برشلونة ولندن. بل أكثر من ذلك، جعلت الحملة أصحاب سيارات تيسلا يعانون من وصمة عار تلاحقهم بعد بخ سياراتهم بعبارات مثل “نازي” في إشارة إلى ماسك وتحيته المثيرة للجدل خلال حفل فوز ترمب في 20 يناير الماضي.
وأحدثت الحملة وانحرافها نحو أعمال العنف تأثيرا بالغا في الشركة التي تعاني أصلا من انخفاض ملحوظ في المبيعات والأرباح بفعل المنافسة مع السيارات الصينية. وامتد هذا التأثير إلى ثروة إيلون ماسك الشخصية التي تقارب 400 مليار دولار وتشكل تيسلا 60% من قيمتها.
حملة مضادة بقيادة ترمب “مندوب المبيعات”
ونظرا لتحسس ماسك الأخطار المالية ومن أن يتحول هو نفسه إلى عبء على إدارة ترمب تدفعه لاستبعاده قليلا، سارع إلى الاستعانة برئيس الولايات المتحدة شخصيا من خلال تحويل ترمب إلى ما يشبه مندوب مبيعات، وهو دور يتقنه جيدا، باستعراضه سيارات تيسلا في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض وتجربتها أمام وسائل الإعلام. وفي خط مواز، نشط مكتب التحقيقات الفدرالية بقيادة كاش باتيل في ملاحقة المتورطين واصفا أعمالهم بأنها مرتبطة بانتقام سياسي. هذا الانتقام قد يكلف أصحابه، بحسب وزيرة العدل بام بوندي، عشرين عاما في السجن وقد تكون في سجون السلفادور سيئة الصيت، بحسب ما قال ترمب للصحفيين، الذي وصف أعمال العنف بأنها إرهاب داخلي. وفي خط مواز آخر أيضا، تحركت وسائل الإعلام الموالية لإدارة ترمب في حملة مضادة لشيطنة هذه الأفعال والتحذير منها. وهذا التحرك شمل أيضا برامج البودكاست وأشهرها “جو روغان” الذي بحث في تفشي هذه الظاهرة لا سيما بعد ملاحظته ما وصفه بتبرير الناس لأعمال العنف المتطرفة هذه والتخريب الشديد.
يقودنا هذا المشهد المتفاعل والذي يشكل أول تحد شعبي لإدارة ترمب إلى مقاربته من زاوية معاناة النظام الليبرالي الديمقراطي في الولايات المتحدة من آلية التصحيح الذاتي التي يفترض أن يقوم بها الكونغرس والقضاء، وهذا يتضح من خلال النقاط التالية:
الأولى، الصعوبة البالغة في التغيير من داخل المؤسسة التشريعية أي الكونغرس. إذ تهيمن على الكابيتول بمجلسيه الشيخ والنواب أكثرية جمهورية تمنع أي مساءلة أو محاسبة أو عرقلة لقرارات الإدارة الحالية. ولا يتجرأ أعضاء هذه الأكثرية على الانتقاد أو إبداء الملاحظة خشية من شن ترمب وماسك حملة تنمر ضدهم على تويتر، كما أنهم يتخوفون من استبعادهم في قائمة مرشحي الحزب في الانتخابات النصفية بعد عامين تقريبا.
الثانية، البطء في الجسم القضائي الذي يمنع البت في القضايا الخلافية في وقت قياسي رغم أن ترمب يحظى بدعم 6 قضاة من أصل 9 في المحكمة العليا التي تنظر في الخلافات بين الولايات والحكومة الفدرالية ويوكل إليها تفسير الدستور. ونظرا لأن ترمب ومنذ اليوم الأول يوقع عشرات الأوامر التنفيذية التي تلاحقها شبهات مخالفة الدستور، فإن الخلافات مع القضاة الفدراليين آخذة في التكاثر وكذلك تحولها إلى قضايا أمام المحكمة العليا. وبما أن المحكمة لديها قدرة محدودة للنظر في الدعاوى تقدر بثمانين دعوى سنويا فإنه من غير المتوقع أن تنتهي منها جميعا قبل انتهاء ولاية ترمب في 2028. مما يعني أن قرارات ترمب الآن سواء بترحيل مهاجرين أو صرف موظفين أو إلغاء اكتساب الجنسية بالولادة أو حظر جنسيات معينة من دخول الولايات المتحدة قد تبقى معلقة إلى حين البت فيها. وبالمناسبة، بدأت ملامح هجوم وشيك من قبل ترمب على المؤسسات القضائية في البلاد لا سيما بعد عرقلة أوامره التنفيذية.
الثالثة، أزمة المعارضة السياسية والتي يعبر عنها الحزب الديمقراطي المثقل بخلافات داخلية بين رموزه وعدم قدرته على مواكبة تطلعات الناخبين الأمريكيين، وهو ما انعكس في نتائج الانتخابات الأخيرة. فالحزب يعاني من انحراف تاريخي في مساره جعله على طرفي نقيض مع قاعدته الشعبية التقليدية من الطبقة الوسطى ليتحول إلى حزب يعبر عن فئة النخبة التقدمية المتمركزة في نيويورك وسياتل ولوس أنجلس.
الرابعة، اللجوء إلى الفوضى والعصيان المدني كأداة للتعبير والضغط على المؤسسات الدستورية في تغيير مسارها. وهذا ما تشير إليه بقوة “حملة تخلى عن تيسلا” التي تتجاوز بمفهومها مقاطعة الشركة أو السيارة إلى مفهوم يحمل أبعاد ثورية. ويبدأ ذلك من عصيان مدني وقد ينتهي بفوضى يقودها تيار أناركي في حال استمر فشل المؤسسات الدستورية بأجنحتها التنفيذية والتشريعية والقضائية في تصحيح المسار الحالي.
قد تنفع السياسات الشعبوية في دول عدة لكن الولايات المتحدة استثناء رغم كل ما نتابعه اليوم من مواقف لترمب وإدارته. فالوصول إلى الولايات المتحدة الحالية كلف الأمريكيين حربا أهلية راح ضحيتها الملايين وهو ما حرص الآباء المؤسسون على تجنبه من خلال وضعهم دستورا ينظم العلاقة بينهم ويجنبهم حكم طاغية أو ملك، وكذلك وثيقة حقوق أشبه بعقد اجتماعي تضمن لهم الحريات وتقدسها.