أعاد سقوط نظام الأسد السوريين إلى اكتشاف مكونات مجتمعهم السوري الكبير بعد أن فصلت بينهم خرائط سيطرة الثورة طوال 14 عاما. وقبلها، قسمت بينهم سياسات الأسد خلال 54 عاما من التمييز الاجتماعي بين مدن وأرياف لتصبح كل محافظة مقسمة على: المدينة مركز المحافظة، وأريافها من النواحي. إذ أنه باستثناء محافظة ريف دمشق لا يوجد رسميا محافظة مثلا اسمها ريف حلب أو ريف درعا لكن مصطلح “ريف” تعزز استخدامه طوال حكم الأسد لترسيخ هذا التمييز الذي فاقم من وجود عنصرية اجتماعية.
وهكذا كانت تنول مراكز المدن لا سيما دمشق وحلب واللاذقية اهتماما نسبيا يعلي من شأنها، من خلال وجود منشآت عامة مركزية مثل المراكز الحكومية والجامعات والمستشفيات والمطارات، ويجعلها تتقدم بمراحل عن مراكز مدن أخرى صارت هي أيضا في عداد الأرياف مثل مدينة إدلب.

عنصرية متأصلة
ويعاني المجتمع السوري تاريخيا مثله مثل غيره من آفة عنصرية بورجوازية المدن على فقرائها، فالشام أي دمشق كانت محاطة قديما بسور يفصل أحيائها التاريخية عن امتداداتها المستحدثة. وهذا السور قسّم بدوره الناس اجتماعيا وفق تصنيف عائلات من داخل السور أو خارجه. ولاحقا طالت العنصرية أولئك النازحين من الجولان والمقيمين في دمشق وضواحيها وبينهم عائلة الرئيس الحالي أحمد الشرع. فكانت كلمة “نازح” وصمة عار تلاحقهم وتجعل أبناء العائلات الدمشقية يتجنبون صحبتهم وجيرتهم ومصاهرتهم. ويمتد هذا التمييز العنصري أيضا ليطال على سبيل المثال لا الحصر أهل حوران من الفلاحين، وكذلك أهل الجزيرة السورية من العشائر بوصفهم “شوايا” حيث تختلف لهجتهم وهيئتهم ونمط حياتهم عن أهل مدن سورية أخرى.
ولذلك لم يكن غريبا بعد سقوط نظام الأسد وانتقال مركز الحكم من إدلب إلى دمشق صدور أصوات عنصرية من داخل العاصمة وضواحيها تتعالى بعنصرية وقحة وتافهة على القادمين المُحررين لتسخر من ملامحهم الريفية التي لفحتها الشمس وملابسهم المحافظة التي سترت أجسادهم من صقيع النزوح.
وتناسى هؤلاء العنصريون أن دمشق أول عز الشرق وعاصمة الأمويين التاريخية حولها نظام الأسد إلى مدينة متهالكة منهكة تقطع أوصالها نقاط التفتيش ويكتم أنفاسها التلوث ويحجب انقطاع الكهرباء تلألئها في المساء. فلينظروا إلى إدلب كيف ازدهرت ورفعت على أيدي من وصفوا بأنهم لا يعرفون الاستحمام أو لا يعرفون كيف يتعاملون مع دمشق وأهلها!
تدل هذه الأصوات الجريئة حد الوقاحة طبعا، كونها تكشف عن ظاهرة وممارسات باطنية، على انشطار المجتمع بين فئتين كبيرتين هما السوريون السود والسوريون البيض. والتوصيف هنا مجازي بحت مستعار من الأدبيات التركية التي قاربت التمييز العنصري بين أهل أرياف الأناضول المحافظين وأهل المدن الكبرى مثل اسطنبول وأنقرة وإزمير لا سيما العلمانيين منهم.
استشراق سوري
وإذا أردنا تحديد ملامح الفئتين بشكل أوضح فلا بد من مقاربتها نظريا على الأقل من مفهوم الاستشراق عند إدوارد سعيد لكنه هذه المرة استشراق داخل حدود سوريا لا بين غرب متفوق وشرق متخلف، وأعتقد أن ذلك يتجلى في الملامح الخمسة التالية:
أولا، يتمسك السوريون البيض باستئثارهم بالسلطة والثروة. ولا تنحصر هذه الفئة هنا فقط بالطائفة العلوية التي ينتمي الأسد إليها بل طالت أيضا بورجوازية المدن من السنة أيضا. وقد انتفعت هذه البورجوازية من النظام طوال سنوات حكمه وساهمت في ترسيخه من خلال شراكة المال والسلطة مع رموزه لا سيما من الضباط والمسؤولين الذين تسلقوا الحكم من داخل الجيش بعد عقود من تهميشهم الاجتماعي في أعالي جبال العلويين في الساحل.
ثانيا، يقدم السوريون البيض أنفسهم على أنهم أكثر انفتاحا وتنورا حتى ولو كانوا من المحافظين اجتماعيا. فعلى سبيل المثال، ركزت الحركات الدينية “المعتدلة” التي سبحت بحمد النظام مثل القبيسيات وغيرها على استقطاب الفئات من داخل العائلات الدمشقية حصرا أو تلك المرموقة في مدن أخرى مثل حلب وحمص حماة. وبذلك، كان السوريون السود يصنفون على أنهم المتزمتين والمنغلقين والذين يعيشون في ظلام فكري وحضاري.
ثالثا، يمثل السوريون السود الشريحة الأوسع من سكان سوريا وهم السنة من العرب، بينما تنحصر فئة السوريين البيض في الأقليات الطائفية والعرقية التي ادعى النظام حمايتها وصدّرها للمشهد معززة بالسنة البرجوازيين.
رابعا، يرى السوريون البيض أنفسهم أكثر تعلما وفهما وأحقية في احتكار صياغة الدولة والشعب بينما السوريون السود هم مجرد تابعين لهم يسمح لهم بالانخراط في هذه العملية حتى سقف معين يخدم حالة المنفعة للبيض اقتصاديا وخدميا. فالسوري الأسود لا يجوز أن تتجاوز مهامه دور السائق إذ من الحرام عليه أن يكون تاجر سيارات إلا إذا ارتقى اجتماعيا في سلم فساد الأوليغارشية، ورغم ذلك لن يسلم من معايرته بأنه أسود.
خامسا، تعكس هذه الظاهرة حربا ثقافية في المجتمع بين قيم مختلفة لا بل متناقضة أظهرتها أيضا شاشات التلفزيون من خلال مسلسلات درامية مختلفة. ففي السنوات الأخيرة، هيمنت قيم العولمة الغربية مثل الفردانية والتحرر والثقافة الاستهلاكية على عادات السوريين البيض، بينما حافظ السوريون السود على قيمهم المحافظة مثل وحدة العائلة وتضامن المجتمع والتدين.
دعوة للتصالح مع الآخر
أعتقد أن السوريين البيض مدعوون للتصالح مع مكونات مجتمعهم الكبير خارج الفقاعة التي اعتادوا عليها خلال سنوات حكم الأسد. والتصالح هذا يشمل تخليهم عن عقدة الاستئثار بالسلطة ومغانمها والثروة والمكانة الاجتماعية ورسم هوية الدولة، فالسوريون السود هم من تجرأوا على تحرير كل السوريين والبلاد من 54 عاما من الوحشية والرعب والاستبداد والنهب. كما أن السوريين السود مدعوون بدورهم للاعتياد على التنوع المجتمعي الواسع والاختلاف في القيم والعادات.
يبدو أن تداعيات سقوط الأسد آخذة في التمدد لتشمل هذه المرة جوانب اجتماعية وثقافية وديموغرافية تدفع السوريين بيضا وسودا لإعادة اكتشاف بعضهم البعض وتآزرهم الحتمي في بناء سوريا ما بعد الأسد.