نواف سلام في دمشق.. مرحلة جديدة تكتمل بمحاكمة نظام الأسد دوليا

ليست السياسة مجرد تحركات رسمية أو لقاءات عابرة، بل هي اختزال للذاكرة والمستقبل في آن واحد. فلذلك ليست زيارة رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام إلى دمشق ولقاؤه بالرئيس السوري أحمد الشرع مجرد تطور دبلوماسي، بل حدث يختزل تحولات جذرية في بنية العلاقة بين لبنان وسوريا، ويعيد طرح سؤال: كيف نعيد تشكيل العلاقة بين دولتين اختبرتا كل أشكال القرب والعداء؟

كرست زيارة سلام إلى دمشق إعلانا صريحا بانتهاء مرحلة، وولادة أخرى. فمنذ سقوط نظام الأسد، لم يطأ مسؤول لبناني رفيع المستوى أرض دمشق بهذا الوزن السياسي، وبهذه الرمزية السيادية. فزيارة نجيب ميقاتي، وإن سبقت، كانت في سياق حكومة تصريف أعمال وفراغ رئاسي، دون غطاء دستوري كامل، ما يجعل زيارة سلام لحظة سياسية مفصلية لا تقارن.

سقوط الأسد.. انتصار لبناني سوري

تكمن أهمية زيارة نواف سلام إلى دمشق في رمزيتها السياسية، توقيتها الإقليمي، وإمكانية فتح مسار لمحاسبة نظام الأسد. وبرأيي، يمكن تلخيص هذه الأهمية من خلال المحددات التالية:

أولا، زيارة منتصر إلى منتصر: وصول نواف سلام لرئاسة الحكومة وقبله انتخاب جوزيف عون رئيسا للبنان، لم يكن كل ذلك ليحدث لولا سقوط منظومة الأسد – حزب الله، وهزيمة الأخير في ما يمكن تسميته “حرب الإسناد”، تلك التي راهن فيها الحزب على إبقاء لبنان ساحة ملحقة بمحور دمشق طهران. سلام، القادم من رحم المعارضة السيادية من 14 آذار إلى ثورة 17 تشرين، يشكّل مع الشرع وجها لانتصار مشروع الدولة في مواجهة مشروع التبعية. فالزيارة ليست زيارة خصم يبحث عن تسوية، بل زيارة شريك منتصر إلى شريك آخر في نصر إقليمي على منطق القمع والاغتيال والوصاية. إذ أن نواف سلام من رموز الخط المعارض لنظام الأسد، ومن الأصوات التي وقفت بوجه حلفائه في لبنان منذ سنوات. ودخوله دمشق من بوابة الدولة، لا عنجر ولا غازي كنعان، ولا رستم غزالة، هو انقلاب تاريخي في رمزية العلاقة.

ثانيا، كسر إرث الوصاية: أكثر ما لفت الأنظار، أن الزيارة لم تتم برا، عبر الطريق الذي طالما ارتبط في الذاكرة اللبنانية بمسارات الإذلال الأمني، بل بالطائرة من مطار بيروت إلى مطار دمشق، مباشرة، رئيس سلطة تنفيذية يزور رئيس سلطة تنفيذية. لا توقف في عنجر، ولا إملاءات مخابراتية. هي رسالة واضحة: العلاقة لم تعد كما كانت، وموازين الكرامة السياسية تغيرت.

ثالثا، توقيت إقليمي حاسم: تأتي الزيارة وسط تغيرات إقليمية ودولية بعد سقوط الأسد، الذي كان عائقا أمام استقرار المنطقة. لبنان، الذي يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية، يرى في هذه الزيارة فرصة لتعزيز التعاون مع سوريا الجديدة، خاصة في ضبط الحدود ومعالجة أزمة اللاجئين السوريين في لبنان. كذلك، تعكس الزيارة انفتاحا عربيا ودوليا على سوريا بقيادة الشرع، مما يعزز دور لبنان كجسر للعلاقات الإقليمية.

رابعا، بناء جسور الثقة: ناقشت الزيارة قضايا حيوية مثل ضبط المعابر غير الشرعية، ترسيم الحدود، عودة اللاجئين السوريين، ومصير المعتقلين السوريين في لبنان والمفقودين اللبنانيين في سوريا. هذه الملفات تمس وجدان الشعبين ومعالجتها  بشفافية قد تبني جسور الثقة، لكنها تبقى خطوة أولية تحتاج إلى تعاون أعمق.

خامسا، محكمة دولية لمحاسبة الأسد: كنت آمل أن تشمل الزيارة وضع أسس لتشكيل لجان قضائية مشتركة تؤدي إلى طلب إنشاء محكمة دولية خاصة بلبنان وسوريا، على غرار محكمة يوغسلافيا السابقة لتغطي جرائم نظام الأسد في البلدين منذ 1970 حتى 2024، بما يشمل القتل الممنهج، الإبادة الطائفية، التهجير القسري، استخدام الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة، والإعدامات الميدانية والتعذيب الوحشي الممنهج في معتقلات مثل تدمر وصيدنايا، وغيرها. وفي لبنان، يُتهم النظام باغتيال رموز مثل كمال جنبلاط، بشير الجميّل، ورفيق الحريري، إضافة إلى تفجيرات مثل مسجدي السلام والتقوى في طرابلس وتفجير مرفأ بيروت 2020، حيث تُوجه أصابع الاتهام إلى النظام بتخزين نيترات الأمونيوم مما تسبب بسقوط بمئات الضحايا. وهذه المحكمة، التي يجب أن تكون عربية ودولية بتمويل مشترك، ستضمن عدم إفلات المجرمين من العقاب.

لحظة تاريخية وبداية جديدة

زيارة نواف سلام إلى دمشق ليست مجرد حدث عابر، بل لحظة تاريخية تحمل أملا بإعادة بناء العلاقات اللبنانية السورية على أسس السيادة والعدالة. لبنان وسوريا، كرئتين متكاملتين، يمكنهما أن يتنفسا معا: سوريا تصل لبنان بعمقه العربي، ولبنان يفتح لسوريا آفاق العلاقات الدولية. لكن التحدي الأكبر يكمن في المحاسبة، فلا عدالة انتقالية دون محكمة دولية تجمع الشعبين ضد إجرام نظام الأسد. 

هكذا إذن زيارة نواف سلام إلى دمشق ليست نهاية حقبة فقط، بل بداية مشوار جديد. مشوار شراكة ندية، لا خضوع فيها ولا إملاء، شراكة بين لبنان المستقل وسوريا الحرة.

أضف تعليق