“يُحْكَى أنَّ” لنا عَمّاً هوَ أسْعَد

شاءت الأقدار حتى الآن ألا ألتقي أسعد طه وجها لوجه. قد يكون في ذلك حكمة حتى أحفظ له كل هذا الاحترام والإعجاب والترقب لكل تجربة وحكمة وخبرة يشاركها.

أرجو ألا يلومني عمنا أسعد في ظني هذا الذي هو براء من أي إثم. إذ ابتلانا هذا الزمان بفقاعات ما إن احتكينا بها حتى انفجرت وأفرغت كل ما فيها من سوء.

assad taha book
الصورة من فيسبوك أسعد طه

“يحكى أن”

الأقدار نفسها شاءت ألا أسمع عن أسعد طه إلا كل خير ممن احتك به وهو ما أفتاني به قلبي عندما استفتيته في صاحب الهمة المتجددة والقلب النابض شبابا والحضور البهي والصوت الرخيم والثقافة الواسعة والتجارب الغنية والنقاط الساخنة والحكايات من المناطق الرمادية في العالم.

إعجابي بالعم أسعد ظاهري لا باطني، فأنا أرى برانيته ولم أبلغ جوانيته. وهذا الإعجاب لا أحتكره وحدي فكثيرون مثلي دأبوا على متابعة تدويناته وتغريداته وسلاسل المرئيات والسمعيات القصيرة والحلقات الوثائقية العميقة. فما إن صدر “يُحكى أن” حتى عزمت على النهل من تجارب وحكم من شم رائحة النبي، قارئا بصوته وأدائه وكأنه يحدثني وجها لوجه.

مخزن العمر

يتمرد عمنا أسعد على التقدم بالسن وغزوات الشيب في مساحات الرأس لكنه يقر بأنه في “مخزن العمر”، وهناك “تجارب رائعة ودروس عظيمة” لم يعد باستطاعته الاستفادة منها إلا أن الزمان يمنحه فرصة للتعبير عنها فهو خبر حياة الشباب لكننا لم نبلغ حكمة الشيوخ بعد.

يحثنا عمنا أسعد على السفر وهو الذي انطلق من السويس وحط في البوسنة وما بينهما من مدن وبلاد وقارات وتطلعات وآمال بقدر آلام الحروب والمآسي. فالسفر يشعرنا “أن هذه الأرض مهما امتدت هي بيتك، وأن ساكنيها مهما اختلفوا هم أهلك. يفرحك فرحهم ويحزنك حزنهم، لكن هل يظل بوسعك إذن أن تتحمل كل هذا الألم؟”.

assad taha picture 1
الصورة من فيسبوك أسعد طه

ليس بعد القاع قاع

لا يخجل أسعد طه أن يعترف بأنه علم نفسه بنفسه وأن يشكر أصحاب الفضل عليه وأن يستعرض مسار تطوره إلى ما هو عليه اليوم. ولا يجد حرجا في أن يشارك قصص الفشل وإن ظللتها عبارات وجدت طريقها اليوم إلى تجار “التنمية البشرية”. فعمنا أسعد يدعونا إن كنا في القاع إلى أن ننظر “إلى عل، إلى القمة، واحلم وفكر، لعلك تنال بهمتك منزلة لم تكن تتوقعها. ثم ما الضير في أن تنظر إلى القمة وأنت في القاع؟ اطمئن لن تسقط، فليس بعد القاع قاع”.

لا صك ضمان

جريء أسعد طه في “يحكى أن”. هي جرأة التصالح مع الذات وعلى الملأ. هي محاولة ربما للتطهر من إثم لم يرتكبه في أفلامه عن قصد. هو تبرؤ من “انحراف بندقية حزب الله” ومن جعجعة “تشافيز” الممانعة المعادية لربيع العرب، من جعجعة أصمّت فلسطين ولم تتذوق طحينها الأبيض ولا ذهبها الأسود ولا ورقها الأخضر.

يعزي عمنا أسعد نفسه بأن “الكتابة هي ربما البضاعة الوحيدة التي لا يستطيع بائعها منح المشترك صك ضمان. فالكاتب يكتب اليوم كما يراه الآن، وليس كما سيكون في المستقبل وكذا يفعل صانع الفيلم الوثائقي”.

assad taha picture 3
الصورة من فيسبوك أسعد طه

جنة سراييفو

بين دفتي “يحكى أن” تحضر أسماء كثيرة قابلها العم أسعد منها من ترك بصمة في حياته أو حول مجراها إلى البوسنة وعاصمتها سراييفو. إذ فيها قال إن “عليك أن تعمل الصالحات حتى تدخل الجنة في الآخرة، أما في الدنيا فيمكنك الذهاب إلى سراييفو”، ليكرر علنا نسينا أن “بعض المدن كبعض النساء لا تعرف سببا للوقوع في حبها”.

وأسماء أخرى، تسجل حضورها في سطور “يحكى أن” في صداقة مستمرة أو مهمة عمل عابرة. أسماء بعضها معروف أشبه بفقاعات الهواء الخاوية إلا من هراء، وإن شئتم لكم أن تستبدلوا الهاء بالخاء. فقاعات “امْتُقِعَ” وجهها أي تغير لونه من حزن أو خوف أو مرض على ذمة قاموس المعاني، اللهم آمين إلى أبد الآبدين.

شروط الجنون 

لو خط عمنا أسعد حكاياته مبكرا لكنت أبكرت في التعلم واتخذت قرارات تحررية جريئة ليس أقلها كسر قيود العبودية الوظيفية.

هو جنون نعم. لكنه العقل بذاته وبشروط أسعد طه: “الهمة والرؤية والمرونة”. همة تدفعه للمغامرة وتحمل عثرات الطريق. ورؤية تحدد المسار. ومرونة تمكن من التغيير عند الخطأ.

حكمة الشيوخ بروح الشباب

مؤثر العم أسعد في حكاياته تأثيرا حقيقيا ليس تأثير الـ”إنفلونسر” أو فقاعات الهراء. هو المؤثر الحكيم لجيل يواجه تشويش مؤثري السلع التجارية والعادات السلوكية.

هو الشيخ الذي يفتقده شاب مثلي ليعترف أمامه كما يعترف المذنب للكاهن، فيربت على كتفي ليقول “ماذا ستخسر إذا جربت؟ لا تجربة خاسرة مهما بدا لك الأمر غير ذلك، تفقد بعض الوقت، وتفقد بعض المال، وتفقد بعض الجهد، وتكون محل استهزاء البعض وتهكمهم، لكنك في المقابل تكسب كثيرا. معارف ودرايات وخبرات كثيرة ودروسا عظيمة، أدناها أنك تأكدت أن هذا الاختيار لا يناسبك، عليك أن تبحث عن غيره”.

assad taha picture 4
الصورة من فيسبوك أسعد طه

روح المدن

هو ابن بطوطة زماننا الذي يعود إلينا بالحكايات والتجارب عن الثقافات والإنسان ومآسيه المهملة على قارعة السياسة القذرة.

هو رحالة لا يكتم أسرار رحلته ولا يستعرض فيها انستغراميا. هو الذي يقول لك “كنت ثريا وسيما أو فقيرا محروما من الجمال، ألم تلاحظ أن بعض الأماكن قد تبتسم لك، قد تغازلك، وتقع في حبك، ولا تتردد في أن تخبرك به، فترتبك وتتعثر في الطريق. فإذا ما غبت عنها في سفر طويل ثم عدت فإنها تعانقك أو تلومك لغيابك، من قال إن المدن حجارة، لا روح لها؟”.

سلاح الحكاية

هو الحكّاء الذي لا يمل من حكاية الحكايات بل يريد من كل قارئ منا أن يكون حكاء، فالحكاية “هي بندقية أخرى لا تصيب ولا تقتل إلا الباطل المحتل والفاسد الحاكم، تحمي ذاكرة الوطن إلى من يأتي محملا بكل أسباب النصر”.

هو الباحث خلف الإنسان وقصص يرفض أن يدفنها النسيان في شرق آسيا ووسطها وبلاد ما وراء النهر وبين النهرين وجزيرة العرب وفسيفساء البلقان وجروح أفريقيا الغائرة والقارة اللاتينية. يكتبها ويرويها في أفلامه حكايات لغايات في نفسه أولها فرضية التوثيق.

“يغادر المرء نفسه وأهله والعيال

يحمل متاعه

يعبر البحر والجبال 

تفر من بين يديه السنون والأيام 

يبحث عن الذهب 

فإذا ما العمر ذهب 

أدرك ما غابت عنه الأفهام

الذهب هو الإنسان 

إذا ما ظل فيه الإنسان”

أسعد طه

رأي واحد حول ““يُحْكَى أنَّ” لنا عَمّاً هوَ أسْعَد

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s