في هذا اللقاء يحدثنا الزميل إبراهيم عرب، رئيس تحرير نشرات بقناة الجزيرة الإخبارية، عن أبرز المحطات في مسيرته الأكاديمية والمهنية، ويطلعنا على التحديات التي تواجه الإعلام التلفزيوني في ظل منافسة الإعلام الرقمي ومنصاته، ويروي لنا قصة إطلاق النشرة الإخبارية الجديدة “منتصف الليل” على قناة الجزيرة.

حدثنا عن تأثير المكان الذي ولدت وكبرت فيه على تكوين شخصيتك.
ولدت في بيروت، عام 1984، عندما كانت المدينة تعاني من تبعات الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ومن الصراعات العسكرية بين المليشيات اللبنانية والفلسطينية والجيش السوري التي استمرت حتى 1989 الذي شهد بداية الانتقال السياسي نحو الجمهورية الثانية، وإخماد نيران الحرب الأهلية على الأقل تحت الرماد ولو لفترة.
نشأتُ بين دوي القذائف، وأزيز الرصاص، وعمليات الاختطاف والتهجير، وغير ذلك من ملامح الحروب الأهلية التي ما زلنا نشاهدها على شاشاتنا وكأن شيئا لم يتغير باستثناء مرور عقدين أو ثلاثة.
كان لهذه الأجواء تأثير مباشر على شخصيتي، ودفعتني إلى الاهتمام بالشأن العام والسياسة والمواظبة على متابعة الأخبار في سن مبكرة، حتى أن كبار أفراد العائلة كانوا يستدعونني لمعرفة تفاصيل ما يجري وأنا لم أبلغ السادسة من عمري. فالتنشئة الاجتماعية في بيروت في مثل تلك الفترة أثرت بشكل مباشر على الأجيال سواء في البيوت أو المدارس.
وبيروت -رغم كل السواد الحالك الذي يلفها- ظلت منارة وشعاعا للحريات والعمل السياسي والاجتماعي. لهذا انخرطت مبكرا بالعمل الكشفي والتطوعي، إلى حد أبعدني ربما عن اهتمامات أقران لي في مجالات مثل الرياضة وغيرها. وهذا التأثير تسبب بشكل أو بآخر بانخراطي في العمل الصحفي منذ المرحلة المتوسطة بإطلاق مجلة الحائط في إحدى أشهر مدارس بيروت الحكومية “ثانوية البر والإحسان”، ومن ثم المجلة السنوية. وتأكدت بعد دخولي للثانوية أنني خلقت لأكون صحفياً، وهذا ما كان وهذا ما صرت عليه، حين انتسبت لجامعة بيروت العربية وانخرطت في العمل الصحفي منذ السنة الأولى.
ما الهوايات التي تمارسها بشكل منتظم؟
علاقتي مع القراءة علاقة استثنائية تمتد إلى سنوات الطفولة وما زالت هذه العلاقة مستمرة وتشتد كلما مرت السنوات. وهذه الهواية تحولت إلى عادة يومية إذا لا يمكن أن يمر يوم دون قراءة ولو صفحات معدودة من كتاب أو مذكرات أو رواية، ومع التطور التكنولوجي ودخول عالم النشر المجال الرقمي ساهم ذلك في توطيد العلاقة من خلال الوصول إلى محيط واسع من العناوين بمختلف اللغات، وشكلت مواقع التواصل المتخصصة في الكتب مجالا عاما للنقاش وتقييم الكتب والمؤلفين ورصد كم القراءات السنوية مما يشجع على التمسك أكثر بهذه الهواية إضافة إلى مسببها الرئيسي وهو سبر أغوار المعرفة والتعلم المستمر.
أما الهوايات الأخرى فهي مرتبطة إلى حد كبير ببعضها وإلى حد أكبر بمجال عملنا الصحفي، إذ أهوى التصوير الفوتوغرافي، رغم أنني كسول جدا في النشر. فالكاميرا لا تفارقني في حل وترحالي وجولاتي. ومن هنا تبرز الهواية الثالثة وهي السفر بدافع الاستكشاف والتعرف على الثقافات والاحتكاك بشعوب أخرى حول العالم، والانتقال من ورق الكتب والروايات إلى الواقع الملموس. فكم رواية يقرأ الواحد منا مثلا عن الأندلس على سبيل المثال وكيف تختلف تجربته عندما يجول بين مدن هذا الإقليم الإسباني العابق بالتاريخ والتراث والجمال والعلم والمعرفة. والأمر ذاته ربما ينطبق على دول في جنوب شرق آسيا مثل فيتنام التي شاهدناها في أفلام هوليوود أو الوثائقيات لكن التجول في شوارع هانوي وهوتشي منه يختلف كثيرا عما يعرض على الشاشات أو يتصدر سطور كتب التاريخ والسياسة. ومما لا شك فيه أن السفر والاقتراب من الناس على اختلافهم يسد الفجوة المعرفية بين الشعوب ويعزز مبدأ “لتعارفوا” ويجعلنا أكثر انفتاحا على ثقافات وعادات وتقاليد وأديان ومعتقدات كان لدينا صور نمطية عنها أبعد ما تكون عن الحقيقة.
ومن الهوايات أيضا وكما ذكرت تأتي ضمن سلسلة متصلة هي الكتابة أو التدوين، وإن كنت أيضا مقلا هذه الفترة في ظل الضغوط المهنية اليومية، إلا أن الكتابة جزء أصيل من تكويني ومرآة تعكس شخصيتي.

حدثنا عن تخصصك الأكاديمي.
حصلت مؤخرا على درجة الماجستير بتقدير “امتياز” في الإعلام والدراسات الثقافية من معهد الدوحة للدراسات العليا عن رسالة بعنوان “السردية الإسرائيلية على منصات الفيديو الرقمية: تمثيلات أشرف مروان في محتوى نتفلكس نموذجا”.
وحللت في هذا البحث الأكاديمي عينة مسحية لمحتوى الأعمال على منصة “نتفلكس” بين 2017 و2019 التي تتناول صورة رجل الأعمال والمسؤول المصري السابق أشرف مروان الذي قضى في 2007 وسط غموض يخيم على هويته لجهة كونه جاسوسا لإسرائيل أم عميلا مزدوجا.
ومن خلال نتائج الدراسة، توصلت إلى أن محتوى “نتفلكس” تهيمن عليه السرديات الإسرائيلية خصوصا تلك المتعلقة بالجيش الإسرائيلي وأجهزة المخابرات وتحديدا الموساد حيال مسألة أشرف مروان. فرغم وجود جدل مستمر بشأن هوية أشرف مروان، هيمنت سردية الموساد ومن خلفها السردية الإسرائيلية الرسمية بأنه جاسوس على محتوى “نتفلكس” من خلال عملين من أصل ثلاثة أعمال. ويتضح أن العملين المؤيدين لسردية الموساد ينتميان إلى النوع الوثائقي الذي يعكس مصداقية أكثر لدى الجمهور وهما “أسرار الموساد” الذي بث في 2017 و”الجاسوس الذي سقط على الأرض” الذي بث في 2019 بينما الفيلم الذي يتبنى سردية العميل المزدوج لكنه يظهر تفوقا إسرائيليا أيضا هو من النوع الدرامي القائم على الخيال وهو “فيلم الملاك” أو “العميل بابل” الذي بث في 2018.
حدثنا عن مسيرتك المهنية قبل الالتحاق بالشبكة.
التحقت بشبكة الجزيرة في 2011 كنت حينها في السادسة والعشرين من عمري، عملت صحفيا في غرفة الأخبار، ثم رئيسا لتحرير النشرات، وسمحت لي الفرص القليلة بالعمل مراسلا ميدانيا سواء من الدوحة أو من بيروت. وقبل ذلك، تدربت في أعرق الصحف اللبنانية، السفير والنهار. كما عملت مع عدد من المؤسسات الإعلامية المطبوعة والمسموعة والتلفزيونية والإلكترونية بصفتي صحفيا مستقلا، إضافة إلى ذلك سلكت طريق التدريب والتدريس الجامعي مبكرا مع منظمات المجتمع المدني إضافة إلى جامعة بيروت العربية والجامعة الأمريكية في بيروت. وكان تدريبي في جريدة النهار عبر برامجها التدريبية للصحفيين الشباب آنذاك مدخلا إلى ما كان يعرف باسم الصحافة الإلكترونية واليوم باسم الإعلام الرقمي. فشكلت هذه اللبنة الأولى لدخولي مجال المدونات، فأنتجت وأخرجت فيلما وثائقيا عنها كان بحث التخرج الجامعي. ولاحقا ازداد هذا الاهتمام والنهم للاستزادة والتعلم المتواصل فأصبحت خبيرا في هذا المجال وحللت ضيفا ومتحدثا في مقابلات على عدد من المؤسسات الإعلامية.
لكن للأمانة فإن غرفة أخبار قناة الجزيرة تعد هي المدرسة المهنية الاحترافية لي في الإعلام التلفزيوني، ففيها نضجت مهنيا واحترفت صناعة الأخبار والنشرات والتغطيات الخاصة والإشراف عليها وقيادة الفرق التحريرية. فما زرعته الجزيرة فينا تحصده القناة يوميا من خلال العمل الاحترافي التنافسي الذي نقدمه جميعا ويتصدر شاشاتنا الكبيرة والصغيرة ويحصد المشاهدات والتفاعلات العالية.

تشرف على الفترة الإخبارية الجديدة “نشرة منتصف الليل”، ما أبرز التحديات التي واجهتكم لإطلاق هذه النشرة في قالبها الإبداعي؟
العمل في الجزيرة عنوان التحدي الدائم لتقديم أفضل محتوى تحريري بأفضل شكل إبداعي وباستخدام أفضل الأدوات التشغيلية. ونشرة “منتصف الليل” ليست استثناء، فقد أبصرت النور في مطلع شهر رمضان الماضي لتكون سهرة إخبارية منوعة تتناول قضايا لا تتسع لها نشرات اليوم خصوصا في الجوانب الاجتماعية والعلمية والفنية والرياضية وغير ذلك.
ومنذ اليوم الأول من رمضان التحقت بهذه النشرة للعمل رئيس تحرير لها، بالاشتراك مع الزميل رفعت حمدي الذي كان له دور رئيسي في إجراء التجارب عليها في مدة زمنية قصيرة جدا وعمل متواصل بلا انقطاع.
واجهنا تحديات على مستويات عديدة لكن الدعم الذي حصلنا عليه من إدارة الأخبار متمثلة بمدير الأخبار عاصف حميدي وإدارة القناة برعاية مدير القناة أحمد بن سالم اليافعي ذلل كل العقبات التحريرية والإبداعية والتشغيلية. فهذه النشرة ليست كأي نشرة أخرى سواء من حيث المدة الزمنية فهي تمتد إلى 85 دقيقة أي ما يعادل ساعة ونصف الساعة وبشكل يومي.
وتتميز هذه النشرة بخروجها عن الإطار الكلاسيكي لنشرات الأخبار من خلال التفاعل الرشيق بين المذيعين والخروج المدروس عن النص، مما يشعر الجمهور بأنه جزء من هذه السهرة. كما أن القضايا والمواضيع التي تناقش في هذه الجولة قد تكون أقرب إلى اهتمامات الجمهور اليومية والمعيشية بعيدا عن أخبار النزاعات والحروب والصراعات الدولية.
تعبر هذه النشرة عن روح الجزيرة بامتياز من خلال تضافر الجهود والعمل الدؤوب لكل الإدارات والطواقم في الشبكة الذين عملوا على قلب رجل واحد في التحرير والإبداع والتشغيل والتكنولوجيا لخروج هذه الخدمة الإخبارية وتطويرها بشكل يومي.
كيف تقيم تفاعل المشاهد العربي مع المحتوى التلفزيوني الإخباري في ظل منافسة الإعلام الرقمي؟
الإجابة السهلة والتلقائية على هذا السؤال أن المنصات الرقمية تبتلع التلفزيون ولا مجال للمنافسة. لكن قد نفاجأ جميعا بأن هذا الأمر مغاير للواقع. فمن خلال دراسة أعددتها مؤخرا لصالح شبكة الجزيرة، طرحت السؤال التالي: من أين يحصل العرب على الأخبار السياسية؟
أما الإجابة فكانت أن 57% يحصلون عليها من القنوات التلفزيونية بينما يحصل عليها 22% عبر المنصات المختلفة على شبكة الإنترنت. وهذه النتيجة هي أحدث إحصائيات المؤشر العربي 2017/2018 الذي نفذه المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات ميدانيا ف يبلدان عربية مختلفة.
ووفق دراسة إحصائية أعدها مركز PEW للأبحاث في 2018، فإن الأمريكيين يتابعون الأخبار المحلية بنسبة 41% عبر التلفزيون، وفي أستراليا استنادا إلى إحصائية أجراها مركز روي مورغن في أستراليا في أكتوبر 2018 فإن 65.5% يتابعون الأخبار عبر التلفزيون.
ويتميز التلفزيون حتى الآن بقدر أكبر في تغطية الأخبار الميدانية والعاجلة عبر انتشار المراسلين والنقل المباشر من عين المكان والوصول إلى صناع القرار والمسؤولين سواء كان بثه عبر جهاز القمر الصناعي أو عبر الإنترنت. أما الإنترنت فيتفوق من حيث التفاعل.
خلاصة القول إن هذا يدفع العاملين والباحثين في مجال الإعلام إلى التركيز على مفهوم المنصات العابرة Cross Platforms، بمعنى أن تعمل قنوات الأخبار على جذب الجمهور من فضاء الإنترنت والعكس صحيح في إطار تزامني تفاعلي.

ما الرسالة التي توجهها إلى زملائك في الشبكة؟
أدعو زملائي -وهم عائلتي الكبيرة- إلى أن يتمسكوا أكثر بمبادئهم وقيمهم الصحفية فنحن اليوم مثل المؤمن القابض على الجمر. ففي الوقت الذي صرنا نواجه فيه ذبابا إلكترونية وكتابا وهميين وحملات تحريضية وعقوبات بالسجن وبلغ الأمر حد القتل أيضا فإن الرد على كل ذلك هو بالتمسك بالقيم الصحفية السامية.
فالجزيرة، كما قال الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في الذكرى السنوية العشرين لتأسيسها، كانت ولا تزال شاهد حق لا يدلس ولسان صدق لا يجامل، وحرمت القتلة من التستر على القتل، والفشلة من التستر على الفشل وانحازت للحقيقة والإنسان.
ومن هنا العمل مثل الحياة فيه منغصات وفيه الأفراح والنجاحات الشخصية والعامة. فلتكن التحديات منطلقا وحافزا للنهوض من جديد، ولتكن النجاحات أساسا صلبا لنجاحات أكبر.
رأي واحد حول “مقابلة مع موقع “تواصل” الخاص بشبكة الجزيرة… إبراهيم عرب: غرفة أخبار الجزيرة مدرسة مهنية محترفة”